أراد الله تعالى أن يأمُرَهم بالتَّقوى، فاستفتح ذلك بتشريفهم بأنَّهم أولادُ يعقوب ـ - عليه السلام - ـ، ثمَّ بالتَّذكير بنعمه عليهم، وأنَّه تعالى فضَّلهم على عالمي زمانهم.
ونتعلَّم من دعوة يُوسُفَ أنَّ الدَّاعيةَ المصلحَ لا ترتبطُ دعوتُه في زمانٍ ولا مكانٍ ولا في أي حالٍ من الأحوال، من عُسْرٍ أو يُسْرٍ، من سرَّاء أو ضرَّاء؛ فيُوسُفُ دعا إلى الله تعالى وهو في السِّجن، ولم تمنعْه كُرْبةُ السِّجن ولا بهتانُ التُّهمة عن أن يدعو إلى الله تعالى.
فالمحنة لا تَثْنِي المؤمنَ عن واجبه في الدَّعوة إلى الله تعالى، فمع أنَّه في السِّجن، انتهز فرصة تأويل رؤيا السَّجينين، فبادر إلى الدَّعوة إلى التَّوحيد وإلى الله تعالى، فالدِّين أهمُّ من الدُّنيا، فما فائدة أن يكون العبد عالماً بأمر الدُّنيا، جاهلاً بأمر الآخرة؟! فلعلَّ يُوسُفَ - عليه السلام - نظر إلى ذلك، فهو يعلم أنَّ أحدهما مقبل على الموت {لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ ... (٤٢)} [الأنفال].
وكانت دعوتُهُ دعوةً في أعلى مَرَاتِبِ الأدب، فنراه لم يجرحْ مشاعرَ صاحبيه، ولم ينطقْ ببنْتِ شَفَةٍ، ولم ينْبِسْ بكلمة تمسُّ كرامتهما، بل كان حريصاً على مراعاة عواطفهما، ولم يعبْ تلك الآلهة؛ امتثالاً لقوله تعالى: {وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ. .. (١٠٨)} [الأنعام]
ونخرجُ من دعوتِه أيضاً أنَّ الدَّعوة إلى الله تعالى لا تكونُ بالسَّيفِ والسِّنان، وإنَّما بالحجَّة والبرهان، كما نصَّ على ذلك كتاب الله تعالى في مواضع كثيرة، منها قوله تعالى: {فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ (٢١) لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ (٢٢)} [الغاشية]، وقوله تعالى: {فَإِنْ أَعْرَضُوا فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا