للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

التأهُّب والتزيين والتجمُّل، فأخذ من فضولِ شعره، وتنظَّف وتطيَّب، ولبس أجمل ثيابه، وأتى إلى تلك الدار متَّقِيًا في طريقه كلَّ وسخ ودنس وأثر يصيبه أشدَّ تقوى، حتى الغبار والدخان وما هو دون ذلك. فلما وصل إلى الباب رحَّب به ربُّها، ومَكَّن له في صدر الدار على الفرُش والوسائد، ورمقته العيون، وقُصِد بالكرامة من كل ناحية.

فلو أنه ذهب بعد أخذ هذه الزينة، فجلس في المزابل، وتمرَّغ عليها، وتمعَّك بها، وتلطَّخ في بدنه وثيابه بما عليها من عَذِرة وقذَر، ودخل ذلك في شَعْره وبَشَره وثيابه، فجاء على تلك الحال إلى تلك الدار، وقصدَ دخولَها للوعد الذي سبق له= لقامَ (١) إليه البوَّابُ بالضرب والطرد، والصياح عليه، والإبعاد له من بابها وطريقها، فرجع متحيِّرًا خاسئًا (٢).

فالأول حالُ الرَّاجي، وهذا حال المتمنِّي.

وإن شئت مثَّلتَ حالَ الرجلين بملِكٍ هو من أغنى (٣) الناس وأعظمهم أمانةً، وأحسنهم معاملة، لا يضيع لديه حقُّ أحد، وهو يعامل الناس من وراء سِترٍ لا يراه أحد، وبضائعُه وأمواله وتجاراته وعبيده وإماؤه ظاهرٌ بارز في داره للمعاملين. فدخل عليه رجلان، فكان أحدهما يعامله بالصدق والأمانة والنصيحة، لم يجرِّب عليه غِشًّا ولا خيانة ولا مَكرًا، فباعه بضائعه كلَّها، واعتمد مع مماليكه وجواريه ما يحب أن يعتمد معهم. فكان إذا دخل إليه ببضاعة تخيَّر له أحسنَ البضائع وأحبَّها إليه، وإن صنعها بيده بذل جهدَه في


(١) في الأصل: «فقام»، وهو سهو. وكذا في (ق، غ).
(٢) (ن، ز): «خاسرا».
(٣) في (ق، غ، ط): «أغير». ورسمها في الأصل يشبه هذا. وهو تصحيف.