هذا وعيد شديد لمن كتم ما أنزل الله على رسله، من العلم الذي أخذ الله الميثاق على أهله، أن يبينوه للناس ولا يكتموه، فمن تعوض عنه بالحطام الدنيوي، ونبذ أمر الله، فأولئك:{مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلا النَّارَ} لأن هذا الثمن الذي اكتسبوه، إنما حصل لهم بأقبح المكاسب، وأعظم المحرمات، فكان جزاؤهم من جنس عملهم، {وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} بل قد سخط عليهم وأعرض عنهم، فهذا أعظم عليهم من عذاب النار، {وَلا يُزَكِّيهِمْ} أي: لا يطهرهم من الأخلاق الرذيلة، وليس لهم أعمال تصلح للمدح والرضا والجزاء عليها، وإنما لم يزكهم لأنهم فعلوا أسباب عدم التزكية التي أعظم أسبابها العمل بكتاب الله، والاهتداء به، والدعوة إليه، فهؤلاء نبذوا كتاب الله، وأعرضوا عنه، واختاروا الضلالة على الهدى، والعذاب على المغفرة، فهؤلاء لا يصلح لهم إلا النار، فكيف يصبرون عليها، وأنى لهم الجلد عليها؟ "
{ذَلِكَ} المذكور، وهو مجازاته بالعدل، ومنعه أسباب الهداية، ممن أباها واختار سواها.
وأيضا ففي قوله:{نزلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ} ما يدل على أن الله أنزله لهداية خلقه، وتبيين الحق من الباطل، والهدى من الضلال، فمن صرفه عن مقصوده، فهو حقيق بأن يجازى بأعظم العقوبة.
{وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتَابِ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ} أي: وإن الذين اختلفوا في الكتاب، فآمنوا ببعضه، وكفروا ببعضه، والذين حرفوه وصرفوه على أهوائهم ومراداتهم {لَفِي شِقَاقٍ} أي: محادة، {بَعِيدٍ} عن الحق لأنهم قد خالفوا الكتاب الذي جاء بالحق الموجب للاتفاق وعدم التناقض، فمرج أمرهم، وكثر شقاقهم، وترتب على ذلك افتراقهم، بخلاف أهل الكتاب الذين آمنوا به، وحكموه في كل شيء، فإنهم اتفقوا وارتفقوا بالمحبة والاجتماع عليه.
وقد تضمنت هذه الآيات، الوعيد للكاتمين لما أنزل الله، المؤثرين عليه، عرض الدنيا بالعذاب والسخط، وأن الله لا يطهرهم بالتوفيق، ولا بالمغفرة، وذكر السبب في ذلك بإيثارهم الضلالة على الهدى، فترتب على ذلك اختيار العذاب على المغفرة، ثم توجع لهم بشدة صبرهم على النار، لعملهم بالأسباب التي يعلمون أنها موصلة إليها، وأن الكتاب مشتمل على الحق الموجب للاتفاق عليه، وعدم الافتراق، وأن كل من خالفه، فهو في غاية البعد عن الحق، والمنازعة والمخاصمة، والله أعلم.