للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

{٤٦ - ٥٠} {قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلا نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ * قُلْ مَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ إِنْ أَجْرِيَ إِلا عَلَى اللَّهِ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ * قُلْ إِنَّ رَبِّي يَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلامُ الْغُيُوبِ} .

أي ⦗٦٨٣⦘ {قُلْ} يا أيها الرسول، لهؤلاء المكذبين المعاندين، المتصدين لرد الحق وتكذيبه، والقدح بمن جاء به: {إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ} أي: بخصلة واحدة، أشير عليكم بها، وأنصح لكم في سلوكها، وهي طريق نصف، لست أدعوكم بها إلى اتباع قولي، ولا إلى ترك قولكم، من دون موجب لذلك، وهي: {أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى} أي: تنهضوا بهمة، ونشاط، وقصد لاتباع الصواب، وإخلاص لله، مجتمعين، ومتباحثين في ذلك، ومتناظرين، وفرادى، كل واحد يخاطب نفسه بذلك.

فإذا قمتم لله، مثنى وفرادى، استعملتم فكركم، وأجلتموه، وتدبرتم أحوال رسولكم، هل هو مجنون، فيه صفات المجانين من كلامه، وهيئته، وصفته؟ أم هو نبي صادق، منذر لكم ما يضركم، مما أمامكم من العذاب الشديد؟

فلو قبلوا هذه الموعظة، واستعملوها، لتبين لهم أكثر من غيرهم، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ليس بمجنون، لأن هيئاته (١) ليست كهيئات المجانين، في خنقهم، واختلاجهم، ونظرهم، بل هيئته أحسن الهيئات، وحركاته أجل الحركات، وهو أكمل الخلق، أدبا، وسكينة، وتواضعا، ووقارا، لا يكون [إلا] لأرزن الرجال عقلا.

ثم [إذا] تأملوا كلامه الفصيح، ولفظه المليح، وكلماته التي تملأ القلوب، أمنا، وإيمانا، وتزكى النفوس، وتطهر القلوب، وتبعث على مكارم الأخلاق، وتحث على محاسن الشيم، وترهب (٢) عن مساوئ الأخلاق ورذائلها، إذا تكلم رمقته العيون، هيبة وإجلالا وتعظيما.

فهل هذا يشبه هذيان المجانين، وعربدتهم، وكلامهم الذي يشبه أحوالهم؟ "

فكل من تدبر أحواله ومقصده استعلام هل هو رسول الله أم لا؟ سواء تفكر وحده، أو مع غيره، جزم بأنه رسول الله حقا، ونبيه صدقا، خصوصا المخاطبين، الذي هو صاحبهم يعرفون أول أمره وآخره.

وثَمَّ مانع للنفوس آخر عن اتباع الداعي إلى الحق، وهو أنه يأخذ أموال من يستجيب له، ويأخذ أجرة على دعوته. فبين الله تعالى نزاهة رسوله صلى الله عليه وسلم عن هذا الأمر فقال: {قُلْ مَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ} أي: على اتباعكم للحق {فَهُوَ لَكُمْ} أي: فأشهدكم أن ذلك الأجر - على التقدير - أنه لكم، {إِنْ أَجْرِيَ إِلا عَلَى اللَّهِ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} أي: محيط علمه بما أدعو إليه، فلو كنت كاذبا، لأخذني بعقوبته، وشهيد أيضا على أعمالكم، سيحفظها عليكم، ثم يجازيكم بها.

ولما بين البراهين الدالة على صحة الحق، وبطلان الباطل، أخبر تعالى أن هذه سنته وعادته أن {يَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ} لأنه بين من الحق في هذا الموضع، ورد به أقوال المكذبين، ما كان عبرة للمعتبرين، وآية للمتأملين.

فإنك كما ترى، كيف اضمحلت أقوال المكذبين، وتبين كذبهم وعنادهم، وظهر الحق وسطع، وبطل الباطل وانقمع، وذلك بسبب بيان {عَلامُ الْغُيُوبِ} الذي يعلم ما تنطوي عليه القلوب، من الوساوس والشبه، ويعلم ما يقابل ذلك، ويدفعه من الحجج.


(١) في ب: هيئته.
(٢) في ب: وتزجر.

<<  <   >  >>