ينوه تعالى بفضيلة مريم وعلو قدرها، وأن الملائكة خاطبتها بذلك فقالت {يا مريم إن الله اصطفاك} أي: اختارك {وطهّرك} من الآفات المنقصة {واصطفاك على نساء العالمين} الاصطفاء الأول يرجع إلى الصفات الحميدة والأفعال السديدة، والاصطفاء الثاني يرجع إلى تفضيلها على سائر نساء العالمين، إما على عالمي زمانها، أو مطلقا، وإن شاركها أفراد من النساء في ذلك كخديجة وعائشة وفاطمة، لم يناف الاصطفاء المذكور، فلما أخبرتها الملائكة باصطفاء الله إياها وتطهيرها، كان في هذا من النعمة العظيمة والمنحة الجسيمة ما يوجب لها القيام بشكرها، فلهذا قالت لها الملائكة:{يا مريم اقنتي لربك}
{اقنتي لربك} القنوت دوام الطاعة في خضوع وخشوع، {واسجدي واركعي مع الراكعين} خص السجود والركوع لفضلهما ودلالتهما على غاية الخضوع لله، ففعلت مريم، ما أمرت به شكرا لله تعالى وطاعة، ولما أخبر الله نبيه بما أخبر به عن مريم، وكيف تنقلت بها الأحوال التي قيضها الله لها، وكان هذا من الأمور الغيبية التي لا تعلم إلا بالوحي.
قال {ذلك من أنباء الغيب نوحيه إليك وما كنت لديهم} أي: عندهم {إذ يلقون أقلامهم أيهم يكفل مريم} لما ذهبت بها أمها إلى من لهم الأمر على بيت المقدس، فتشاحوا وتخاصموا أيهم يكفل مريم، واقترعوا عليها بأن ألقوا أقلامهم في النهر، فأيهم لم يجر قلمه مع الماء فله كفالتها، فوقع ذلك لزكريا نبيهم وأفضلهم، فلما أَخْبَرتَهُم يا محمد بهذه الأخبار التي لا علم لك ولا لقومك بها دل على أنك صادق وأنك رسول الله حقا، فوجب عليهم الانقياد لك وامتثال أوامرك، كما قال تعالى:{وما كنت بجانب الغربي إذ قضينا إلى موسى الأمر} الآيات.