للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

{وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالأنْثَى * مِنْ نُطْفَةٍ إِذَا تُمْنَى * وَأَنَّ عَلَيْهِ النَّشْأَةَ الأخْرَى} .

{وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ} فسر الزوجين (١) بقوله: {الذَّكَرَ وَالأنْثَى} وهذا اسم جنس شامل لجميع الحيوانات، ناطقها وبهيمها، فهو المنفرد بخلقها، {مِنْ نُطْفَةٍ إِذَا تُمْنَى} وهذا من أعظم الأدلة على كمال قدرته وانفراده بالعزة العظيمة، حيث أوجد تلك الحيوانات، صغيرها وكبيرها من نطفة ضعيفة (٢) من ماء مهين، ثم نماها وكملها، حتى بلغت ما بلغت، ثم صار الآدمي منها إما إلى أرفع المقامات في أعلى عليين، وإما إلى أدنى الحالات في أسفل سافلين.

ولهذا استدل بالبداءة على الإعادة، فقال: {وَأَنَّ عَلَيْهِ النَّشْأَةَ الأخْرَى} فيعيد العباد من الأجداث، ويجمعهم ليوم الميقات، ويجازيهم على الحسنات والسيئات.

{وَأَنَّهُ هُوَ أَغْنَى وَأَقْنَى} أي: أغنى العباد بتيسير أمر معاشهم من التجارات وأنواع المكاسب، من الحرف وغيرها، وأقنى أي: أفاد عباده من الأموال بجميع أنواعها، ما يصيرون به مقتنين لها، ومالكين لكثير من الأعيان، وهذا من نعمه على عباده أن جميع النعم منه تعالى (٣) وهذا يوجب للعباد أن يشكروه، ويعبدوه وحده لا شريك له

{وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّ الشِّعْرَى} وهي النجم المعروف بالشعرى العبور، المسماة بالمرزم، وخصها الله بالذكر، وإن كان رب كل شيء، لأن هذا النجم مما عبد في الجاهلية، فأخبر تعالى أن جنس ما يعبده المشركون مربوب مدبر مخلوق،

فكيف تتخذ إلها مع الله (٤) .

{وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عَادًا الأولَى} وهم قوم هود عليه السلام، حين كذبوا هودا، ⦗٨٢٣⦘ فأهلكهم الله بريح صرصر عاتية

{وَثَمُودَ} قوم صالح عليه السلام، أرسله الله إلى ثمود فكذبوه، فبعث الله إليهم (٥) الناقة آية، فعقروها وكذبوه، فأهلكهم الله تعالى، {فَمَا أَبْقَى} منهم أحدا، بل أهلكهم الله عن آخرهم (٦) .

{وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا هُمْ أَظْلَمَ وَأَطْغَى} من هؤلاء الأمم، فأهلكهم الله وأغرقهم في اليم

{وَالْمُؤْتَفِكَةَ} وهم قوم لوط عليه السلام {أَهْوَى} أي: أصابهم الله بعذاب ما عذب به أحدا من العالمين، قلب أسفل ديارهم أعلاها، وأمطر عليهم حجارة من سجيل.

ولهذا قال: {فَغَشَّاهَا مَا غَشَّى} أي: غشيها من العذاب الأليم الوخيم ما غشى أي: شيء عظيم لا يمكن وصفه.

{فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكَ تَتَمَارَى} أي: فبأي: نعم الله وفضله تشك أيها الإنسان؟ فإن نعم الله ظاهرة لا تقبل الشك بوجه من الوجوه، فما بالعباد من نعمة إلا منه تعالى، ولا يدفع النقم إلا هو.

{هَذَا نَذِيرٌ مِنَ النُّذُرِ الأولَى} أي: هذا الرسول القرشي الهاشمي محمد بن عبد الله، ليس ببدع من الرسل، بل قد تقدمه من الرسل السابقين، ودعوا إلى ما دعا إليه، فلأي شيء تنكر رسالته؟ وبأي حجة تبطل دعوته؟

أليست أخلاقه [أعلا] أخلاق الرسل الكرام، أليست دعوته إلى كل خير والنهي عن كل شر؟ (٧) ألم يأت بالقرآن الكريم الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، تنزيل من حكيم حميد؟ ألم يهلك الله من كذب من قبله من الرسل الكرام؟ فما الذي يمنع العذاب عن المكذبين لمحمد سيد المرسلين، وإمام المتقين، وقائد الغر المحجلين؟

{أَزِفَتِ الآزِفَةُ} أي: قربت القيامة، ودنا وقتها، وبانت علاماتها. {لَيْسَ لَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ كَاشِفَةٌ} أي: إذا أتت القيامة وجاءهم العذاب الموعود به.

ثم توعد المنكرين لرسالة الرسول محمد صلى الله عليه وسلم، المكذبين لما جاء به من القرآن الكريم، فقال: {أَفَمِنْ هَذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ} ؟ أي: أفمن هذا الحديث الذي هو خير الكلام وأفضله وأشرفه تتعجبون منه، وتجعلونه من الأمور المخالفة للعادة الخارقة للأمور [والحقائق] المعروفة؟ هذا من جهلهم وضلالهم وعنادهم، وإلا فهو الحديث الذي إذا حدث صدق، وإذا قال قولا فهو القول الفصل الذي ليس بالهزل، وهو القرآن (٨) العظيم، الذي لو أنزل على جبل لرأيته خاشعا متصدعا من خشية الله، الذي يزيد ذوي الأحلام رأيا وعقلا وتسديدا وثباتا، وإيمانا ويقينا والذي (٩) ينبغي العجب من عقل من تعجب منه، وسفهه وضلاله.

{وَتَضْحَكُونَ وَلا تَبْكُونَ} أي: تستعملون الضحك والاستهزاء به، مع أن الذي ينبغي أن تتأثر منه النفوس، وتلين له القلوب، وتبكي له العيون،

سماعا لأمره ونهيه، وإصغاء لوعده ووعيده، والتفاتا لأخباره الحسنة الصادقة

{وَأَنْتُمْ سَامِدُونَ} أي: غافلون عنه، لاهون عن تدبره، وهذا من قلة عقولكم وأديانكم فلو عبدتم الله وطلبتم رضاه في جميع الأحوال لما كنتم بهذه المثابة التي يأنف منها أولو الألباب، ولهذا قال تعالى: {فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا} الأمر بالسجود لله خصوصا، ليدل ذلك على فضله (١٠) وأنه سر العبادة ولبها، فإن لبها الخشوع لله (١١) والخضوع له، والسجود هو أعظم حالة يخضع بها العبد (١٢) فإنه يخضع قلبه وبدنه، ويجعل أشرف أعضائه على الأرض المهينة موضع وطء الأقدام. ثم أمر بالعبادة عموما، الشاملة لجميع ما يحبه الله ويرضاه من الأعمال والأقوال الظاهرة والباطنة.

تم تفسير سورة النجم، والحمد لله الذي لا نحصي ثناء عليه، بل هو كما أثنى على نفسه، وفوق ما يثني عليه عباده، وصلى الله على محمد وسلم تسليما كثيرا.

تفسير سورة اقتربت

مكية


(١) في ب: فسرهما.
(٢) كذا في ب، وفي أ: قليلة.
(٣) في ب: وهذا من نعمه تعالى أن أخبرهم أن جميع النعم منه.
(٤) في ب: فكيف تتخذ مع الله آلهة.
(٥) في ب: لهم.
(٦) في ب: بل أبادهم عن آخرهم.
(٧) في ب: أليس يدعو إلى كل خير، وينهي عن كل شر.
(٨) في ب: القرآن.
(٩) في ب: بل الذي.
(١٠) في ب: يدل على فضله.
(١١) في ب: فإن روحها الخشوع لله.
(١٢) في أ: القلب، وفي ب: الكلمة غير واضحة، وقد جعلتها العبد لمناسبة الكلمة للسياق لقوله فيما بعد: (قلبه وبدنه) .

<<  <   >  >>