لما ذكر تعالى ما أخذه الله على أهل الكتاب من اليهود والنصارى، وأنهم نقضوا ذلك إلا قليلا منهم، أمرهم جميعا أن يؤمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم، واحتج عليهم بآية قاطعة دالة على صحة نبوته، وهي: أنه بين لهم كثيرا مما يُخْفُون عن الناس، حتى عن العوام من أهل ملتهم، فإذا كانوا هم المشار إليهم في العلم ولا علم عند أحد في ذلك الوقت إلا ما عندهم، فالحريص على العلم لا سبيل له إلى إدراكه إلا منهم، فإتيان الرسول صلى الله عليه وسلم بهذا القرآن العظيم الذي بيَّن به ما كانوا يتكاتمونه بينهم، وهو أُمِّيّ لا يقرأ ولا يكتب - من أدل الدلائل على القطع برسالته، وذلك مثل صفة محمد في كتبهم، ووجود البشائر به في كتبهم، وبيان آية الرجم ونحو ذلك.
{وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ} أي: يترك بيان ما لا تقتضيه الحكمة.
{قَدْ جَاءَكُم مِّنَ اللَّهِ نُورٌ} وهو القرآن، يستضاء به في ظلمات الجهالة وعماية الضلالة.
{وَكِتَابٌ مُّبِينٌ} لكل ما يحتاج الخلق إليه من أمور دينهم ودنياهم. من العلم بالله وأسمائه وصفاته وأفعاله، ومن العلم بأحكامه الشرعية وأحكامه الجزائية.
ثم ذكر مَنْ الذي يهتدي بهذا القرآن، وما هو السبب الذي من العبد لحصول ذلك، فقال:{يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلامِ} أي: يهدي به من اجتهد وحرص على بلوغ مرضاة الله، وصار قصده حسنا -سبل السلام التي تسلم صاحبها من العذاب، وتوصله إلى دار السلام، وهو العلم بالحق والعمل به، إجمالا وتفصيلا.
{وَيُخْرِجُهُم مِّن} ظلمات الكفر والبدعة والمعصية، والجهل والغفلة، إلى نور الإيمان والسنة والطاعة والعلم، والذكر. وكل هذه الهداية بإذن الله، الذي ما شاء كان، وما لم يشأ لم يكن. {وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} .