للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

{لَعَلَّنَا نَتَّبِعُ السَّحَرَةَ إِنْ كَانُوا هُمُ الْغَالِبِينَ} أي: قالوا للناس: اجتمعوا لتنظروا غلبة السحرة لموسى، وأنهم ماهرون في صناعتهم، فنتبعهم، ونعظمهم، ونعرف فضيلة علم السحر، فلو وفقوا للحق، لقالوا: لعلنا نتبع المحق منهم، ولنعرف الصواب، فلذلك ما أفاد فيهم ذلك، إلا قيام الحجة عليهم.

{فَلَمَّا جَاءَ السَّحَرَةُ} ووصلوا لفرعون قالوا له: {أَئِنَّ لَنَا لأجْرًا إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ} لموسى؟

{قَالَ نَعَمْ} لكم أجر وثواب {وَإِنَّكُمْ إِذًا لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ} عندي، وعدهم الأجر والقربة منه، ليزداد نشاطهم، ويأتوا بكل مقدورهم في معارضة ما جاء به موسى.

فلما اجتمعوا للموعد، هم وموسى، وأهل مصر، وعظهم موسى وذكرهم وقال: {وَيْلَكُمْ لا تَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذَابٍ وَقَدْ خَابَ مَنِ افْتَرَى} فتنازعوا وتخاصموا ثم شجعهم فرعون، وشجع بعضهم بعضا.

فـ {قَالَ لَهُمْ مُوسَى أَلْقُوا مَا أَنْتُمْ مُلْقُونَ} أي: ألقوا كل ما في خواطركم إلقاؤه، ولم يقيده بشيء دون شيء، لجزمه ببطلان ما جاءوا به من معارضة الحق.

{فَأَلْقَوْا حِبَالَهُمْ وَعِصِيَّهُمْ} فإذا هي حيات تسعى، وسحروا بذلك أعين الناس، {وَقَالُوا بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ إِنَّا لَنَحْنُ الْغَالِبُونَ} فاستعانوا بعزة عبد ضعيف، عاجز من كل وجه، إلا أنه قد تجبر، وحصل له صورة ملك وجنود، فغرتهم تلك الأبهة، ولم تنفذ بصائرهم إلى حقيقة الأمر، أو أن هذا قسم منهم بعزة فرعون والمقسم عليه، أنهم غالبون.

{فَأَلْقَى مُوسَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ} تبتلع وتأخذ {مَا يَأْفِكُونَ} فالتفت جميع ما ألقوا من الحبال والعصي، لأنها إفك، وكذب، وزور وذلك كله باطل لا يقوم للحق، ولا يقاومه.

فلما رأى السحرة هذه الآية العظيمة، تيقنوا - لعلمهم - أن هذا ليس بسحر، وإنما هو آية من آيات الله، ومعجزة تنبئ بصدق موسى، وصحة ما جاء به.

{فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ} لربهم.

{قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ} وانقمع الباطل، في ذلك المجمع، وأقر رؤساؤه، ببطلانه، ووضح الحق، وظهر حتى رأى ذلك الناظرون بأبصارهم، ولكن أبى فرعون، إلا عتوا وضلالا وتماديا في غيه وعنادا، فقال للسحرة: {آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ} .

يتعجب ويعجب قومه من جراءتهم عليه، وإقدامهم على الإيمان من غير إذنه ومؤامرته.

{إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ} هذا، وهو الذي جمع السحرة، وملأه، الذين أشاروا عليه بجمعهم من مدائنهم، وقد علموا أنهم ما اجتمعوا بموسى، ولا رأوه قبل ذلك، وأنهم جاءوا من السحر، بما يحير الناظرين ويهيلهم، ومع ذلك، فراج عليهم هذا القول، الذي هم بأنفسهم، وقفوا على بطلانه، فلا يستنكر على أهل هذه العقول، أن لا يؤمنوا بالحق الواضح، والآيات الباهرة، لأنهم لو قال لهم فرعون عن أي شيء كان، إنه على خلاف حقيقته، صدقوه.

ثم توعد السحرة فقال: {لأقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ} أي: اليد اليمنى، والرجل اليسرى، كما يفعل بالمفسد في الأرض، ⦗٥٩٢⦘ {وَلأصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ} لتختزوا، وتذلوا. فقال السحرة - حين وجدوا حلاوة الإيمان وذاقوا لذته -: {لا ضَيْرَ} أي: لا نبالي بما توعدتنا به {إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنْقَلِبُونَ إِنَّا نَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لَنَا رَبُّنَا خَطَايَانَا} من الكفر والسحر، وغيرهما {أَنْ كُنَّا أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ} بموسى، من هؤلاء الجنود، فثبتهم الله وصبرهم.

فيحتمل أن فرعون فعل بهم ما توعدهم به، لسلطانه، واقتداره إذ ذاك ويحتمل، أن الله منعه منهم، ثم لم يزل فرعون وقومه، مستمرين على كفرهم، يأتيهم موسى بالآيات البينات، وكلما جاءتهم آية، وبلغت منهم كل مبلغ، وعدوا موسى، وعاهدوه لئن كشف الله عنهم، ليؤمنن به، وليرسلن معه بني إسرائيل، فيكشفه الله، ثم ينكثون، فلما يئس موسى من إيمانهم، وحقت عليهم كلمة العذاب، وآن لبني إسرائيل أن ينجيهم من أسرهم، ويمكن لهم في الأرض، أوحى الله إلى موسى: {أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي} .

أي: اخرج ببني إسرائيل أول الليل، ليتمادوا ويتمهلوا في ذهابهم. {إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ} أي: سيتبعكم فرعون وجنوده.

ووقع كما أخبر، فإنهم لما أصبحوا، وإذا بنو إسرائيل قد سروا كلهم مع موسى.

{فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ} يجمعون الناس، ليوقع ببني إسرائيل، ويقول مشجعا لقومه: {إِنَّ هَؤُلاءِ} أي: بني إسرائيل {لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ وَإِنَّهُمْ لَنَا لَغَائِظُونَ} ونريد أن ننفذ غيظنا في هؤلاء العبيد، الذين أبِقُوا منا.

{وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حَاذِرُونَ} أي: الحذر على الجميع منهم، وهم أعداء للجميع، والمصلحة مشتركة، فخرج فرعون وجنوده، في جيش عظيم، ونفير عام، لم يتخلف منهم سوى أهل الأعذار، الذين منعهم العجز.

قال الله تعالى: {فَأَخْرَجْنَاهُمْ مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ} أي: بساتين مصر وجناتها الفائقة، وعيونها المتدفقة، وزروع قد ملأت أراضيهم، وعمرت بها حاضرتهم وبواديهم.

{وَمَقَامٍ كَرِيمٍ} يعجب الناظرين، ويلهي المتأملين، تمتعوا به دهرا طويلا وقضوا بلذته وشهواته، عمرا مديدا، على الكفر والفساد، والتكبر على العباد والتيه العظيم.

{كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا} أي: هذه البساتين والعيون، والزروع، والمقام الكريم، {بَنِي إِسْرَائِيلَ} الذين جعلوهم من قبل عبيدهم، وسخروا في أعمالهم الشاقة، فسبحان من يؤتي الملك من يشاء، وينزعه ممن يشاء، ويعز من يشاء بطاعته، ويذل من يشاء بمعصيته.

{فَأَتْبَعُوهُمْ مُشْرِقِينَ} أي: اتبع قوم فرعون قوم موسى، وقت شروق الشمس، وساقوا خلفهم محثين، على غيظ وحنق قادرين.

<<  <   >  >>