فاختصموا أيهم يكفلها، لأنها بنت إمامهم ومقدمهم، وكلهم يريد الخير والأجر من الله، حتى وصلت بهم الخصومة إلى أن اقترعوا عليها، فألقوا أقلامهم مقترعين، فأصابت القرعة زكريا، رحمة من الله به وبها. فأنت- يا أيها الرسول- لم تحضر تلك الحالة لتعرفها، فتقصها على الناس، وإنما الله نبأك بها، وهذا هو المقصود الأعظم من سياق القصص أنه يحصل بها العبرة، وأعظم العبر، الاستدلال بها على التوحيد والرسالة، والبعث وغيرها من الأصول الكبار.
{٤٥} {إِذْ قَالَتِ الْمَلائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ} أي: له الوجاهة، والجاه العظيم في الدنيا والآخرة عند الخلق.
ومع ذلك فهو- عند الله- من المقربين، الذين هم أقرب الخلائق إلى الله، وأعلاهم درجة، وهذه بشارة لا يشبهها شيء من البشارات.
ومن تمام هذه البشارة أنه: {يُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ} فيكون تكليمه آية من آيات الله، ورحمة منه بأمه وبالخلق، { (و) كذلك يكلمهم {كَهْلا} أي: في حال كهولة، وهذا تكليم النبوة والدعوة والإرشاد.
فكلامه في المهد، فيه آيات وبراهين على صدقه ونبوته، وبراءة أمه مما يظن بها من الظنون السيئة، وكلامه في كهولته، فيه نفعه العظيم للخلق، وكونه واسطة بينهم وبين ربهم، في وحيه، وتبليغ دينه وشرعه.
ومع ذلك فهو {مِنَ الصَّالِحِينَ} الذين أصلح الله قلوبهم بمعرفته وحبه، وألسنتهم بالثناء عليه وذكره، وجوارحهم بطاعته وخدمته.
{٤٧} {قَالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ} وهذا من الأمور المستغربة {قَالَ كَذَلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ} ليعلم العباد أنه على كل شيء قدير، وأنه لا ممانع لإرادته.
{إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ} أي: جنس الكتب السابقة، والحكم بين الناس، ويعطيه النبوة.
{٤٩} { (و) يجعله {رَسُولا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ} ويؤيده بالآيات البينات، والأدلة القاهرة حيث قال: {أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ} تدلكم أني رسول الله حقا.
وذلك {أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُبْرِئُ الأَكْمَهَ} وهو ممسوح العينين، الذي فقد بصره وعينيه، {وَالأَبْرَصَ وَأُحْيِي الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ} المذكور {لآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ * وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ} فأيده الله بجنسين من الآيات والبراهين الخوارق المستغربة التي لا يمكن لغير الأنبياء الإتيان بها، والرسالة والدعوة، والدين الذي جاء به، وأنه دين التوراة، ودين الأنبياء السابقين، وهذا أكبر الأدلة على صدق الصادقين.
فإنه لو كان من الكاذبين، لخالف ما جاءت به الرسل، ولناقضهم في أصولهم وفروعهم، فعلم بذلك أنه رسول الله، وأن ما جاء به حق لا ريب فيه.
وأيضا فقوله: {وَلأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ} أي: ولأخفف عنكم بعض الآصار، والأغلال.
{٥١} {فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ * إِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ} وهذا ما يدعو إليه جميع الرسل، عبادة الله وحده لا شريك له، وطاعتهم.
وهذا هو الصراط المستقيم الذي من يسلكه أوصله إلى جنات النعيم، فحينئذ اختلفت أحزاب بني إسرائيل في عيسى، فمنهم من آمن به واتبعه، ومنهم من كفر به وكذبه، ورمى أمه بالفاحشة كاليهود.
{٥٢} {فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَى مِنْهُمُ الْكُفْرَ} والاتفاق على رد دعوته، {قَالَ} نادبا لبني إسرائيل على مؤازرته {مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ} أي: الأنصار.
{نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ آمَنَّا بِاللَّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} وهذا من منة الله عليهم، وعلى عيسى، حيث ألهم هؤلاء الحواريين، الإيمان به، والانقياد لطاعته، والنصر لرسوله.
{٥٣} {رَبَّنَا آمَنَّا بِمَا أَنْزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ} وهذا التزام تام للإيمان، بكل ما أنزل الله، ولطاعة رسوله.
{فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ} لك بالوحدانية، ولنبيك بالرسالة، ولدينك بالحق والصدق.
{٥٤} وأما من أحس عيسى منهم الكفر وهم جمهور بني إسرائيل، فإنهم {مَكَرُوا} بعيسى {وَمَكَرَ اللَّهُ} بهم، {وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} فاتفقوا على قتله وصلبه، وشبه لهم شبه عيسى.
{٥٥} فقبضوا على من شبه لهم به، وقال الله لعيسى: {إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا} وصلبوا من قتلوه، ظانين أنه عيسى، وباءوا بالإثم العظيم.
وسينزل عيسى ابن مريم، في آخر هذه الأمة حكما عدلا، يقتل الخنزير، ويكسر الصليب، ويتبع ما جاء به محمد -صلى الله عليه وسلم-، ويعلم الكاذبون غرورهم وخداعهم، وأنهم مغرورون مخدوعون.
وقوله: {وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ} المراد بمن اتبعه: الطائفة التي آمنت به، ونصرهم الله على من انحرف عن دينه.
ثم لما جاءت أمة محمد -صلى الله عليه وسلم-، فكانوا هم أتباعه حقا، فأيدهم الله ونصرهم على الكفار كلهم، وأظهرهم بالدين الذي جاءهم به محمد -صلى الله عليه وسلم-: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأَرْضِ} الآية.
ولكن حكمة الله عادلة، فإنها اقتضت أن من تمسك بالدين، نصره الله النصر المبين، وأن من ترك أمره ونهيه، ونبذ شرعه، وتجرأ على معاصيه، إنه يعاقبه ويسلط عليه الأعداء، {وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ}
وقوله: {ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ}
{٥٦- ٥٧} فقد بين ما يفعله بهم، فقال: {فَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَأُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ * وَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ