وَالْغَيْرَةُ مَنْزِلَةٌ شَرِيفَةٌ عَظِيمَةٌ جِدًّا، جَلِيلَةُ الْمِقْدَارِ. وَلَكِنَّ الصُّوفِيَّةَ الْمُتَأَخِّرِينَ مِنْهُمْ مَنْ قَلَبَ مَوْضُوعَهَا. وَذَهَبَ بِهَا مَذْهَبًا بَاطِلًا. سَمَّاهُ غَيْرَةً فَوَضَعَهَا فِي غَيْرِ مَوْضِعِهَا. وَلُبِّسَ عَلَيْهِ أَعْظَمُ تَلْبِيسٍ. كَمَا سَتَرَاهُ.
وَالْغَيْرَةُ نَوْعَانِ: غَيْرَةٌ مِنَ الشَّيْءِ. وَغَيْرَةٌ عَلَى الشَّيْءِ.
وَالْغَيْرَةُ مِنَ الشَّيْءِ: هِيَ كَرَاهَةُ مُزَاحَمَتِهِ وَمُشَارَكَتِهِ لَكَ فِي مَحْبُوبِكَ.
وَالْغَيْرَةُ عَلَى الشَّيْءِ: هِيَ شِدَّةُ حِرْصِكَ عَلَى الْمَحْبُوبِ أَنْ يَفُوزَ بِهِ غَيْرُكَ دُونَكَ أَوْ يُشَارِكَكَ فِي الْفَوْزِ بِهِ.
وَالْغَيْرَةُ أَيْضًا نَوْعَانِ: غَيْرَةُ الْعَبْدِ مِنْ نَفْسِهِ عَلَى نَفْسِهِ، كَغَيْرَتِهِ مِنْ نَفْسِهِ عَلَى قَلْبِهِ، وَمِنْ تَفْرِقَتِهِ عَلَى جَمْعِيَّتِهِ، وَمِنْ إِعْرَاضِهِ عَلَى إِقْبَالِهِ، وَمِنْ صِفَاتِهِ الْمَذْمُومَةِ عَلَى صِفَاتِهِ الْمَمْدُوحَةِ.
وَهَذِهِ الْغَيْرَةُ خَاصِّيَّةُ النَّفْسِ الشَّرِيفَةِ الزَّكِيَّةِ الْعُلْوِيَّةِ. وَمَا لِلنَّفْسِ الدَّنِيَّةِ الْمَهِينَةِ فِيهَا نَصِيبٌ. وَعَلَى قَدْرِ شَرَفِ النَّفْسِ وَعُلُوِّ هِمَّتِهَا تَكُونُ هَذِهِ الْغَيْرَةُ.
ثُمَّ الْغَيْرَةُ أَيْضًا نَوْعَانِ: غَيْرَةُ الْحَقِّ تَعَالَى عَلَى عَبْدِهِ، وَغَيْرَةُ الْعَبْدِ لِرَبِّهِ لَا عَلَيْهِ. فَأَمَّا غَيْرَةُ الرَّبِّ عَلَى عَبْدِهِ: فَهِيَ أَنْ لَا يَجْعَلَهُ لِلْخَلْقِ عَبْدًا. بَلْ يَتَّخِذُهُ لِنَفْسِهِ عَبْدًا. فَلَا يَجْعَلُ لَهُ فِيهِ شُرَكَاءَ مُتَشَاكِسِينَ. بَلْ يُفْرِدُهُ لِنَفْسِهِ. وَيَضِنُّ بِهِ عَلَى غَيْرِهِ. وَهَذِهِ أَعْلَى الْغَيْرَتَيْنِ.
وَغَيْرَةُ الْعَبْدِ لِرَبِّهِ، نَوْعَانِ أَيْضًا: غَيْرَةٌ مِنْ نَفْسِهِ. وَغَيْرَةٌ مِنْ غَيْرِهِ. فَالَّتِي مِنْ نَفْسِهِ: أَنْ لَا يَجْعَلَ شَيْئًا مِنْ أَعْمَالِهِ وَأَقْوَالِهِ وَأَحْوَالِهِ وَأَوْقَاتِهِ وَأَنْفَاسِهِ لِغَيْرِ رَبِّهِ، وَالَّتِي مِنْ غَيْرِهِ: أَنْ يَغْضَبَ لِمَحَارِمِهِ إِذَا انْتَهَكَهَا الْمُنْتَهِكُونَ. وَلِحُقُوقِهِ إِذَا تَهَاوَنَ بِهَا الْمُتَهَاوِنُونَ.
وَأَمَّا الْغَيْرَةُ عَلَى اللَّهِ: فَأَعْظَمُ الْجَهْلِ وَأَبْطَلُ الْبَاطِلِ. وَصَاحِبُهَا مِنْ أَعْظَمِ النَّاسِ جَهْلًا. وَرُبَّمَا أَدَّتْ بِصَاحِبِهَا إِلَى مُعَادَاتِهِ وَهُوَ لَا يَشْعُرُ. وَإِلَى انْسِلَاخِهِ مِنْ أَصْلِ الدِّينِ وَالْإِسْلَامِ.
وَرُبَّمَا كَانَ صَاحِبُهَا شَرًّا عَلَى السَّالِكِينَ إِلَى اللَّهِ مِنْ قُطَّاعِ الطَّرِيقِ. بَلْ هُوَ مِنْ قُطَّاعِ طَرِيقِ السَّالِكِينَ حَقِيقَةً. وَأَخْرَجَ قَطْعَ الطَّرِيقِ فِي قَالَبِ الْغَيْرَةِ. وَأَيْنَ هَذَا مِنَ الْغَيْرَةِ لِلَّهِ؟ الَّتِي تُوجِبُ تَعْظِيمَ حُقُوقِهِ، وَتَصْفِيَةَ أَعْمَالِهِ وَأَحْوَالِهِ لِلَّهِ؟ فَالْعَارِفُ يَغَارُ لِلَّهِ. وَالْجَاهِلُ يَغَارُ عَلَى اللَّهِ. فَلَا يُقَالُ: أَنَا أَغَارُ عَلَى اللَّهِ. وَلَكِنْ أَنَا أَغَارُ لِلَّهِ.
وَغَيْرَةُ الْعَبْدِ مِنْ نَفْسِهِ: أَهَمُّ مِنْ غَيْرَتِهِ مِنْ غَيْرِهِ. فَإِنَّكَ إِذَا غِرْتَ مِنْ نَفْسِكَ صَحَّتْ لَكَ غَيْرَتُكَ لِلَّهِ مِنْ غَيْرِكَ، وَإِذَا غِرْتَ لَهُ مِنْ غَيْرِكَ، وَلَمْ تَغِرْ مِنْ نَفْسِكَ: فَالْغَيْرَةُ مَدْخُولَةٌ