للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

الْجَمْعِ. وَذَوْقُ الْمُسَامَرَةِ: طَعْمَ الْعِيَانِ.

الْفَرْقُ بَيْنَ هَذِهِ الدَّرَجَةِ، وَالَّتِي قَبْلَهَا: أَنَّ تِلْكَ بَقَاءٌ مَعَ الْأَحْوَالِ. وَهَذِهِ الدَّرَجَةُ: خُرُوجٌ وَفَنَاءٌ عَنِ الْأَحْوَالِ. فَإِنَّ الْمُتَمَكِّنَ فِي حَالِ فَنَائِهِ عَنِ الْأَسْبَابِ - أَعْمَالًا كَانَتْ، أَوْ أَحْوَالًا - هُوَ الَّذِي يَجِدُ طَعْمَ الِاتِّصَالِ حَقِيقَةً. فَإِنَّهُ عَلَى حَسَبِ تَجَرُّدِهِ عَنِ الِالْتِفَاتِ إِلَى الْأَسْبَابِ يَكُونُ اتِّصَالُهُ. وَعَلَى حَسَبِ الْتِفَاتِهِ إِلَيْهَا يَكُونُ انْقِطَاعُهُ. وَكُلَّمَا تَمَكَّنَ فِي جَمْعِ هَمِّهِ عَلَى الْحَقِّ سُبْحَانَهُ، وَجَدَ لَذَّةَ الْجَمْعِ عَلَيْهِ، وَذَاقَ طَعْمَ الْقُرْبِ مِنْهُ، وَالْأُنْسِ بِهِ.

فَالِانْقِطَاعُ عِنْدَ الْقَوْمِ: هُوَ أُنْسُ الْقَلْبِ بِغَيْرِهِ تَعَالَى، وَالِالْتِفَاتُ إِلَى مَا سِوَاهُ. وَالِاتِّصَالُ: تَجْرِيدُ التَّعَلُّقِ بِهِ وَحْدَهُ. وَالِانْقِطَاعُ عَمَّا سِوَاهُ بِالْكُلِّيَّةِ.

إِذَا عَرَفْتَ هَذَا. فَلْنَرْجِعْ إِلَى تَفْسِيرِ كَلَامِهِ.

فَقَوْلُهُ " ذَوْقُ الِانْقِطَاعِ طَعْمَ الِاتِّصَالِ " اسْتِعَارَةٌ، وَإِلَّا فَالذَّائِقُ هُوَ صَاحِبُ الِانْقِطَاعِ، لَا نَفْسَ الِانْقِطَاعِ. فَإِنَّهُ هُوَ الَّذِي ذَاقَ الِانْقِطَاعَ وَالِاتِّصَالَ. وَبِالْجُمْلَةِ: فَالْمُرَادُ أَنَّ الْمُنْقَطِعَ هُوَ الْمَحْجُوبُ، وَالْمُتَّصِلَ هُوَ الْمُشَاهِدُ بِقَلْبِهِ، الْمُكَاشِفُ بِسِرِّهِ.

وَأَحْسَنُ مِنَ التَّعْبِيرِ بِالِاتِّصَالِ: التَّعْبِيرُ بِالْقُرْبِ. فَإِنَّهَا الْعِبَارَةُ السَّدِيدَةُ الَّتِي ارْتَضَاهَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ فِي هَذَا الْمَقَامِ.

وَأَمَّا التَّعْبِيرُ بِالْوَصْلِ وَالِاتِّصَالِ: فَعِبَارَةٌ غَيْرُ سَدِيدَةٍ. يَتَشَبَّثُ بِهَا الزِّنْدِيقُ الْمُلْحِدُ، وَالصَّدِّيقُ الْمُوَحِّدُ. فَالْمُوَحِّدُ يُرِيدُ بِالِاتِّصَالِ الْقُرْبَ. وَبِالِانْفِصَالِ وَالِانْقِطَاعِ الْبُعْدَ. وَالْمُلْحِدُ يُرِيدُ بِهِ الْحُلُولَ تَارَةً وَالِاتِّحَادَ تَارَةً.

حَتَّى قَالَ بَعْضُ هَؤُلَاءِ: الْمُنْقَطِعُ لَيْسَ فِي الْحَقِيقَةِ مُنْقَطِعًا. بَلْ لَمْ يَزَلْ مُتَّصِلًا، لَكِنَّهُ كَانَ غَائِبًا عَنِ الْمُشَاهَدَةِ. فَلَمَّا شَاهَدَ وَجَدَ نَفْسَهُ لَمْ يَكُنْ مُنْقَطِعًا. بَلْ لَمْ يَزَلْ مُتَّصِلًا.

قَالَ: وَلَيْسَ قَوْلُنَا " لَمْ يَزَلْ مُتَّصِلًا " بِسَدِيدٍ. فَإِنَّ الِاتِّصَالَ لَا يَصِحُّ إِلَّا بَيْنَ اثْنَيْنِ. فَلَا الْمَحْجُوبُ مُنْقَطِعًا. وَلَا الْمُكَاشِفُ مُتَّصِلًا. وَإِنَّمَا هِيَ عِبَارَاتٌ لِلتَّقْرِيبِ وَالتَّفْهِيمِ. وَأَنْشَدَ فِي ذَلِكَ:

مَا بَالُ عِيسِكَ لَا يَقَرُّ قَرَارُهَا ... وَإِلَامَ ظِلُّكَ لَا يَنِي مُتَنَقِّلَا

فَلَسَوْفَ تَعْلَمُ أَنَّ سَيْرَكَ لَمْ يَكُنْ ... إِلَّا إِلَيْكَ إِذَا بَلَغْتَ الْمَنْزِلَا.

<<  <  ج: ص:  >  >>