للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وَبِإِزَاءِ هَؤُلَاءِ طَائِفَةٌ غَلُظَ حِجَابُهُمْ، وَكَثَفَتْ أَرْوَاحُهُمْ عَنْ هَذَا الشَّأْنِ. فَزَعَمُوا: أَنَّ الْقُرْبَ وَالْبُعْدَ وَالْأُنْسَ لَيْسَ لَهُ حَقِيقَةٌ تَتَعَلَّقُ بِالْخَالِقِ سُبْحَانَهُ. وَإِنَّمَا ذَلِكَ الْقُرْبُ مِنْ دَارِهِ وَجَنَّتِهِ بِالطَّاعَاتِ، وَأُنْسِ الْقَلْبِ بِمَا وَعَدَ عَلَيْهَا مِنَ الثَّوَابِ، وَالْبُعْدُ ضِدُّ ذَلِكَ. لِأَنَّ الْعَبْدَ لَا يَقْرُبُ مِنْ رَبِّهِ. وَلَا يَبْعُدُ عَنْهُ. وَلَا يَأْنَسُ بِهِ. وَصَرَّحُوا بِأَنَّهُ لَا يُرِيدُهُ وَلَا يُحِبُّهُ. فَلَا يَصِحُّ تَعَلُّقُ الْإِرَادَةِ وَالْمَحَبَّةِ بِهِ. فَسَارَ هَؤُلَاءِ مُغَرِّبِينَ. وَسَارَ أُولَئِكَ مُشَرِّقِينِ. كَمَا قِيلَ:

سَارَتْ مُشَرِّقَةً وَسِرْتُ مُغَرِّبًا ... شَتَّانَ بَيْنِ مُشَرِّقٍ وَمُغَرِّبِ.

وَمِصْبَاحُ الْمُوَحِّدِ السَّالِكِ عَلَى دَرْبِ الرَّسُولِ وَطَرِيقِهِ يَتَوَقَّدُ {مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لَا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ} [النور: ٣٥] .

قَوْلُهُ " وَذَوْقُ الْهِمَّةِ: طَعْمَ الْجَمْعِ " جَعَلَ الْهِمَّةَ ذَائِقَةً: وَإِنَّمَا الذَّوْقُ لِصَاحِبِهَا، تَوَسُّعًا.

وَ " الْهِمَّةُ " قَدْ عَبَّرَ عَنْهَا الشَّيْخُ فِيمَا تَقَدَّمَ بِأَنَّهَا " مَا يَمْلِكُ الِانْبِعَاثَ إِلَى الْمَقْصُودِ صِرْفًا " أَيْ حَالَةً وَصْفِيَّةً لَهَا سَطْوَةٌ وَمَلَكَةٌ، تَحْمِلُ صَاحِبَهَا عَلَى الْمَقْصُودِ. وَتَبْعَثُهُ عَلَيْهِ بَعْثًا لَا يُخَالِطُهُ غَيْرُهُ.

فَالْهِمَّةُ عِنْدَهُمْ: طَلَبُ الْحَقِّ، مِنْ غَيْرِ الْتِفَاتٍ إِلَى غَيْرِهِ. وَالْجَمْعُ شُهُودُ الْفَرْدَانِيَّةِ الَّتِي تَفْنَى فِيهَا رُسُومُ الْمُشَاهِدِ. وَهَذَا جَمْعٌ فِي الرُّبُوبِيَّةِ.

وَأَعْلَى مِنْهُ: الْجَمْعُ فِي الْأُلُوهِيَّةِ وَهُوَ جَمْعُ قَلْبِهِ وَهَمِّهِ وَسِرِّهِ عَلَى مَحْبُوبِهِ وَمَرَاضِيهِ وَمُرَادِهِ مِنْهُ. فَهُوَ عُكُوفُ الْقَلْبِ بِكُلِّيَّتِهِ عَلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ. لَا يَلْتَفِتُ عَنْهُ يَمْنَةً وَلَا يَسْرَةً. فَإِذَا ذَاقَتِ الْهِمَّةُ طَعْمَ هَذَا الْجَمْعِ: اتَّصَلَ اشْتِيَاقُ صَاحِبِهَا، وَتَأَجَّجَتْ نِيرَانُ الْمَحَبَّةِ وَالطَّلَبِ فِي قَلْبِهِ. وَيَجِدُ صَبْرَهُ عَنْ مَحْبُوبِهِ مِنْ أَعْظَمِ كَبَائِرِهِ. كَمَا قِيلَ:

وَالصَّبْرُ يُحْمَدُ فِي الْمُوَاطِنِ كُلِّهَا ... إِلَّا عَلَيْكَ فَإِنَّهُ لَا يُحْمَدُ

وَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُ الْأَثَرِ الْإِلَهِيِّ «إِنِّي لَا أَنْظُرُ إِلَى كَلَامِ الْحَكِيمِ. وَإِنَّمَا أَنْظُرُ إِلَى هِمَّتِهِ» .

فَلِلَّهِ هِمَّةُ نَفْسٍ قَطَعَتْ جَمِيعَ الْأَكْوَانِ، وَسَارَتْ فَمَا أَلْقَتْ عَصَا السَّيْرِ إِلَّا بَيْنَ يَدَيِ الرَّحْمَنِ. تَبَارَكَ وَتَعَالَى، فَسَجَدَتْ بَيْنَ يَدَيْهِ سَجْدَةَ الشُّكْرِ عَلَى الْوُصُولِ إِلَيْهِ. فَلَمْ

<<  <  ج: ص:  >  >>