للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

تَزَلْ سَاجِدَةً حَتَّى قِيلَ لَهَا {يَاأَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً فَادْخُلِي فِي عِبَادِي وَادْخُلِي جَنَّتِي} [الفجر: ٢٧] .

فَسُبْحَانَ مَنْ فَاوَتَ بَيْنَ الْخَلْقِ فِي هِمَمِهِمْ، حَتَّى تَرَى بَيْنَ الْهِمَّتَيْنِ أَبْعَدَ مِمَّا بَيْنَ الْمَشْرِقَيْنِ وَالْمَغْرِبَيْنِ. بَلْ أَبْعَدَ مِمَّا بَيْنَ أَسْفَلِ سَافِلِينَ وَأَعْلَى عِلِّيِّينَ. وَتِلْكَ مَوَاهِبُ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ {ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} [الحديد: ٢١] .

قَوْلُهُ " وَذَوْقُ الْمُسَامَرَةِ: طَعْمَ الْعِيَانِ " مُرَادُهُمْ بِالْمُسَامَرَةِ: مُنَاجَاةُ الْقَلْبِ رَبَّهَ، وَإِنْ سَكَتَ اللِّسَانُ، فَلَذَّةُ اسْتِيلَاءِ ذِكْرِهِ تَعَالَى، وَمَحَبَّتِهِ عَلَى قَلْبِ الْعَبْدِ، وَحُضُورِهِ بَيْنَ يَدَيْهِ، وَأُنْسِهِ بِهِ، وَقُرْبِهِ مِنْهُ، حَتَّى يَصِيرَ كَأَنَّهُ يُخَاطِبُهُ وَيُسَامِرُهُ، وَيَعْتَذِرُ إِلَيْهِ تَارَةً، وَيَتَمَلَّقُهُ تَارَةً، وَيُثْنِي عَلَيْهِ تَارَةً، حَتَّى يَبْقَى الْقَلْبُ نَاطِقًا بِقَوْلِهِ: أَنْتَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ، مِنْ غَيْرِ تَكَلُّفٍ لَهُ بِذَلِكَ. بَلْ يَبْقَى هَذَا حَالًا لَهُ وَمَقَامًا. وَلَا يُنْكَرُ وُصُولُ الْقَوْمِ إِلَى هَذَا. فَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «الْإِحْسَانُ أَنْ تَعْبُدَ اللَّهَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ» فَإِذَا بَلَغَ فِي مَقَامِ الْإِحْسَانِ بِحَيْثُ يَكُونُ كَأَنَّهُ يَرَى اللَّهَ سُبْحَانَهُ. فَهَكَذَا مُخَاطَبَتُهُ وَمُنَاجَاتُهُ لَهُ.

لَكِنَّ الْأَوْلَى الْعُدُولُ عَنْ لَفْظِ الْمُسَامَرَةِ إِلَى الْمُنَاجَاةِ فَإِنَّهُ اللَّفْظُ الَّذِي اخْتَارَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي هَذَا. وَعَبَّرَ بِهِ عَنْ حَالِ الْعَبْدِ بِقَوْلِهِ «إِذَا قَامَ أَحَدُكُمْ فِي الصَّلَاةِ فَإِنَّهُ يُنَاجِي رَبَّهُ» وَفِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ «كُلُّكُمْ يُنَاجِي رَبَّهُ. فَلَا يَجْهَرْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ» .

<<  <  ج: ص:  >  >>