الْمَعْرِفَةِ، وَمَا اسْتَهَانُوا بِهِ مِنَ الْأَوْرَادِ وَالْعِبَادَاتِ بَعْدَمَا وَصَلُوا إِلَيْهِ؟ فَقَالَ الْجُنَيْدُ: الْعِبَادَةُ عَلَى الْعَارِفِينَ أَحْسَنُ مِنَ التِّيجَانِ عَلَى رُءُوسِ الْمُلُوكِ. وَقَالَ: الطُّرقُ كُلُّهَا مَسْدُودَةٌ عَلَى الْخَلْقِ، إِلَّا مَنِ اقْتَفَى أَثَرَ الرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وَاتَّبَعَ سُنَّتَهُ، وَلَزِمَ طَرِيقَتَهُ. فَإِنَّ طُرُقَ الْخَيْرَاتِ كُلَّهَا مَفْتُوحَةٌ عَلَيْهِ. وَقَالَ: مَنْ ظَنَّ أَنَّهُ يَصِلُ بِبَذْلِ الْمَجْهُودِ فَمُتَعَنٍّ. وَمَنْ ظَنَّ أَنَّهُ يَصِلُ بِغَيْرِ بَذْلِ الْمَجْهُودِ فَمُتَمَنٍّ.
وَقَالَ أَبُو نُعَيْمٍ: سَمِعْتُ أَبِي يَقُولُ: سَمِعْتُ أَحْمَدَ بْنَ جَعْفَرِ بْنِ هَانِئٍ يَقُولُ: سَأَلْتُ الْجُنَيْدَ، مَا عَلَامَةُ الْإِيمَانِ؟ فَقَالَ: عَلَامَتُهُ طَاعَةُ مَنْ آمَنَتْ بِهِ، وَالْعَمَلُ بِمَا يُحِبُّهُ وَيَرْضَاهُ، وَتَرْكُ التَّشَاغُلِ عَنْهُ بِمَا يَنْقَضِي وَيَزُولُ.
فَرَحْمَةُ اللَّهِ عَلَى أَبِي الْقَاسِمِ الْجُنَيْدِ وَرَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ. مَا أَتْبَعُهُ لِسُنَّةِ الرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وَمَا أَقْفَاهُ لِطَرِيقَةِ أَصْحَابِهِ.
وَهَذَا بَابٌ يَطُولُ تَتَبُّعُهُ جِدًّا. يَدُلُّكَ عَلَى أَنَّ أَهْلَ الِاسْتِقَامَةِ فِي نِهَايَاتِهِمْ: أَشَدُّ اجْتِهَادًا مِنْهُمْ فِي بِدَايَاتِهِمْ، بَلْ كَانَ اجْتِهَادُهُمْ فِي الْبِدَايَةِ فِي عَمَلٍ مَخْصُوصٍ. فَصَارَ اجْتِهَادُهُمْ فِي النِّهَايَةِ: الطَّاعَةَ الْمُطْلَقَةَ. وَصَارَتْ إِرَادَتُهُمْ دَائِرَةً مَعَهَا. فَتُضْعِفُ الِاجْتِهَادَ فِي الْمَعْنَى الْمُعَيَّنِ. لِأَنَّهُ كَانَ مَقْسُومًا بَيْنَهُ وَبَيْنَ غَيْرِهِ.
وَلَا تَضَعُ إِلَى قَوْلِ مُلْحِدٍ قَاطِعٍ لِلطَّرِيقِ فِي قَالَبِ عَارِفٍ، يَقُولُ: إِنَّ مَنْزِلَةَ الْقُرْبِ تَنْقِلُ الْعَبْدَ مِنَ الْأَعْمَالِ الظَّاهِرَةِ إِلَى الْأَعْمَالِ الْبَاطِنَةِ. وَتَحْمِلُ عَلَى الِاسْتِهَانَةِ بِالطَّاعَاتِ الظَّاهِرَةِ، وَتُرِيحُهُ مِنْ كَدِّ الْقِيَامِ بِهَا.
فَصْلٌ قَوْلُهُ: وَتُخَلِّصُ مِنْ رُعُونَةِ الْمُعَارَضَاتِ.
يُرِيدُ: أَنَّ هَذِهِ الْمُلَاحَظَةَ تُخَلِّصُ الْعَبْدَ مِنْ رُعُونَةِ مُعَارَضَةِ حُكْمِ اللَّهِ الدِّينِيِّ وَالْكَوْنِيِّ، الَّذِي لَمْ يَأْمُرْ بِمُعَارَضَتِهِ. فَيَسْتَسْلِمُ لِلْحُكْمَيْنِ. فَإِنَّ مُلَاحَظَةَ عَيْنِ الْجَمْعِ تُشْهِدُهُ: أَنَّ الْحُكْمَيْنِ صَدَرَا عَنْ عَزِيزٍ حَكِيمٍ. فَلَا يُعَارِضُ حُكْمَهُ بِرَأْيٍ وَلَا عَقْلٍ وَلَا ذَوْقٍ وَلَا خَاطِرٍ.
وَأَيْضًا فَتُخَلِّصُ قَلْبَهُ مِنْ مُعَارَضَاتِ السِّوَى لِلْأَمْرِ. فَإِنَّ الْأَمْرَ يُعَارَضُ بِالشَّهْوَةِ. وَالْخَبَرَ يُعَارَضُ بِالشَّكِّ وَالشُّبْهَةِ. فَمُلَاحَظَةُ عَيْنِ الْجَمْعِ: تُخَلِّصُ قَلْبَهُ مِنْ هَاتَيْنِ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute