الْبَعِيدِ، وَنَتْرُكُ مَا أَلِفْنَاهُ مِنْ عَيْشِنَا وَمَنَازِلِنَا، وَمُفَارَقَةِ آبَائِنَا وَأَبْنَائِنَا، وَإِخْوَانِنَا لِأَمْرٍ وُعِدْنَا بِهِ فِي غَيْرِ هَذِهِ الْبِلَادِ، وَنَحْنُ لَا نَقْدِرُ عَلَى تَحْصِيلِ مَا نَحْنُ فِيهِ إِلَّا بَعْدَ الْجَهْدِ وَالْمَشَقَّةِ. فَكَيْفَ نَنْتَقِلُ عَنْهُ؟
وَرَأَتْ هَذِهِ الْفِرْقَةُ مُفَارَقَتَهَا لِأَوْطَانِهَا وَبِلَادِهَا: كَمُفَارَقَةِ أَنْفُسِهَا لِأَبْدَانِهَا. فَإِنَّ النَّفْسَ - لِشِدَّةِ إِلْفِهَا لِلْبَدَنِ - أَكْرَهُ مَا إِلَيْهَا مُفَارَقَتُهُ. وَلَوْ فَارَقَتْهُ إِلَى النَّعِيمِ الْمُقِيمِ.
فَهَذِهِ الطَّائِفَةُ غَلَبَ عَلَيْهَا دَاعِي الْحِسِّ وَالطَّبْعِ عَلَى دَاعِي الْعَقْلِ وَالرُّشْدِ.
وَالطَّائِفَةُ الثَّانِيَةُ: لَمَّا رَأَتْ حَالَ الرُّسُلِ، وَمَا هُمْ فِيهِ مِنَ الْبَهْجَةِوَحُسْنِ الْحَالِ، وَعَلِمُوا صِدْقَهُمْ: تَأَهَّبُوا لِلسَّيْرِ إِلَى بِلَادِ الْمَلِكِ. فَأَخَذُوا فِي الْمَسِيرِ. فَعَارَضَهُمْ أَهْلُوهُمْ، وَأَصْحَابُهُمْ، وَعَشَائِرُهُمْ مِنَ الْقَاعِدِينَ. وَعَارَضَهُمْ إِلْفُهُمْ مَسَاكِنَهُمْ وَدُورَهُمْ وَبَسَاتِينَهُمْ. فَجَعَلُوا يُقَدِّمُونَ رِجْلًا وَيُؤَخِّرُونَ أُخْرَى. فَإِذَا تَذَكَّرُوا طِيبَ بِلَادِ الْمَلِكِ وَمَا فِيهَا مِنْ سَلْوَةِ الْعَيْشِ: تَقَدَّمُوا نَحْوَهَا. وَإِذَا عَارَضَهُمْ مَا أَلِفُوهُ وَاعْتَادُوهُ مِنْ ظِلَالِ بِلَادِهِمْ وَعَيْشِهَا، وَصُحْبَةِ أَهْلِهِمْ وَأَصْحَابِهِمْ: تَأَخَّرُوا عَنِ الْمَسِيرِ، وَالْتَفَتُوا إِلَيْهِمْ. فَهُمْ دَائِمًا بَيْنَ الدَّاعِيَيْنِ وَالْجَاذِبَيْنِ، إِلَى أَنْ يَغْلِبَ أَحَدُهُمَا وَيَقْوَى عَلَى الْآخَرِ. فَيَصِيرُونَ إِلَيْهِ.
وَالطَّائِفَةُ الثَّالِثَةُ: رَكِبَتْ ظُهُورَ عَزَائِمِهَا، وَرَأَتْ أَنَّ بِلَادَ الْمَلِكِ أَوْلَى بِهَا. فَوَطَّنَتْ أَنْفُسَهَا عَلَى قَصْدِهَا. وَلَمْ يَثْنِهَا لَوْمُ اللُّوَّامِ. لَكِنْ فِي سَيْرِهَا بُطْءٌ بِحَسَبِ ضَعْفِ مَا كُشِفَ لَهَا مِنْ أَحْوَالِ تِلْكَ الْبِلَادِ وَحَالِ الْمَلِكِ.
وَالطَّائِفَةُ الرَّابِعَةُ: جَدَّتْ فِي السَّيْرِ وَوَاصَلَتْهُ. فَسَارَتْ سَيْرًا حَثِيثًا. فَهُمْ كَمَا قِيلَ:
وَرَكْبٍ سَرَوْا وَاللَّيْلُ مُرْخٍ سُدُولَهُ ... عَلَى كُلِّ مُغْبَرِّ الْمَطَالِعِ قَاتِمِ
حَدَوْا عَزَمَاتٍ ضَاعَتِ الْأَرْضُ بَيْنَهَا ... فَصَارَ سُرَاهُمْ فِي ظُهُورِ الْعَزَائِمِ
تُرِيهِمْ نُجُومُ اللَّيْلِ مَا يَطْلُبُونَهُ ... عَلَى عَاتِقِ الشِّعْرَى وَهَامِ النَّعَائِمِ
فَهَؤُلَاءِ هِمَمُهُمْ مَصْرُوفَةٌ إِلَى السَّيْرِ. وَقُوَاهُمْ مَوْقُوفَةٌ عَلَيْهِ مِنْ غَيْرِ تَثْنِيَةٍ مِنْهُمْ إِلَى الْمَقْصُودِ الْأَعْظَمِ، وَالْغَايَةِ الْعُلْيَا.
وَالطَّائِفَةُ الْخَامِسَةُ: أَخَذُوا فِي الْجِدِّ فِي الْمَسِيرِ. وَهِمَّتُهُمْ مُتَعَلِّقَةٌ بِالْغَايَةِ، فَهُمْ فِي سَيْرِهِمْ نَاظِرُونَ إِلَى الْمَقْصُودِ بِالْمَسِيرِ. فَكَأَنَّهُمْ يُشَاهِدُونَهُ مِنْ بُعْدٍ، وَهُوَ يَدْعُوهُمْ إِلَى نَفْسِهِ وَإِلَى بِلَادِهِ. فَهُمْ عَامِلُونَ عَلَى هَذَا الشَّاهِدِ الَّذِي قَامَ بِقُلُوبِهِمْ.
وَعَمَلُ كُلِّ أَحَدٍ مِنْهُمْ عَلَى قَدْرِ شَاهِدِهِ. فَمَنْ شَاهَدَ الْمَقْصُودَ بِالْعَمَلِ فِي عِلْمِهِ