وَلَا يَتَعَنَّى السَّالِكُ عَلَى هَذَا الطَّرِيقِ. فَإِنَّهُ وَاصِلٌ وَلَوْ زَحَفَ زَحْفًا. فَأَتْبَاعُ الرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: إِذَا قَعَدَتْ بِهِمْ أَعْمَالُهُمْ، قَامَتْ بِهِمْ عَزَائِمُهُمْ وَهِمَمُهُمْ وَمُتَابَعَتُهُمْ لِنَبِيِّهِمْ. كَمَا قِيلَ:
مَنْ لِي بِمِثْلِ سَيْرِكَ الْمُدَلَّلِ ... تَمْشِي رُوَيْدًا وَتَجِي فِي الْأَوَّلِ
وَالْمُنْحَرِفُونَ عَنْ طَرِيقِهِ، إِذَا قَامَتْ بِهِمْ أَعْمَالُهُمْ وَاجْتِهَادَاتُهُمْ: قَعَدَ بِهِمْ عُدُولُهُمْ عَنْ طَرِيقِهِ.
فَهُمْ فِي السُّرَى لَمْ يَبْرَحُوا مِنْ مَكَانِهِمْ ... وَمَا ظَعَنُوا فِي السَّيْرِ عَنْهُ وَقَدْ كَلُّوا
قَوْلُهُ " وَيُبَصِّرُ غَايَةَ الْجِدِّ " الْجِدُّ: الِاجْتِهَادُ وَالتَّشْمِيرُ، وَالْغَايَةُ: النِّهَايَةُ.
يُرِيدُ: أَنَّ صَفَاءَ الْعِلْمِ يَهْدِي صَاحِبَهُ إِلَى الْغَايَةِ الْمَقْصُودَةِ بِالِاجْتِهَادِ وَالتَّشْمِيرِ. فَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ السَّالِكِينَ - بَلْ أَكْثَرَهُمْ - سَالِكٌ بِجِدِّهِ وَاجْتِهَادِهِ، غَيْرُ مُنْتَبِهٍ إِلَى الْمَقْصُودِ.
وَأَضْرِبُ لَكَ فِي هَذَا مَثَلًا حَسَنًا جِدًّا، وَهُوَ: أَنَّ قَوْمًا قَدِمُوا مِنْ بِلَادٍ بَعِيدَةٍ عَلَيْهِمْ أَثَرُ النَّعِيمِ وَالْبَهْجَةِ، وَالْمَلَابِسُ السَّنِيَّةُ، وَالْهَيْئَةُ الْعَجِيبَةُ. فَعَجِبَ النَّاسُ لَهُمْ. فَسَأَلُوهُمْ عَنْ حَالِهِمْ؟ فَقَالُوا: بِلَادُنَا مِنْ أَحْسَنِ الْبِلَادِ. وَأَجْمَعِهَا لِسَائِرِ أَنْوَاعِ النَّعِيمِ. وَأَرْخَاهَا، وَأَكْثَرِهَا مِيَاهًا، وَأَصَحِّهَا هَوَاءً، وَأَكْثَرِهَا فَاكِهَةً، وَأَعْظَمِهَا اعْتِدَالًا، وَأَهْلُهَا كَذَلِكَ أَحْسَنُ النَّاسِ صُوَرًا وَأَبْشَارًا. وَمَعَ هَذَا، فَمَلِكُهَا لَا يَنَالُهُ الْوَصْفُ جَمَالًا وَكَمَالًا، وَإِحْسَانًا، وَعِلْمًا وَحِلْمًا، وَجُودًا، وَرَحْمَةً لِلرَّعِيَّةِ، وَقُرْبًا مِنْهُمْ. وَلَهُ الْهَيْبَةُ وَالسَّطْوَةُ عَلَى سَائِرِ مُلُوكِ الْأَطْرَافِ. فَلَا يَطْمَعُ أَحَدٌ مِنْهُمْ فِي مُقَاوَمَتِهِ وَمُحَارَبَتِهِ. فَأَهْلُ بَلَدِهِ فِي أَمَانٍ مِنْ عَدُوِّهِمْ. لَا يَحِلُّ الْخَوْفُ بِسَاحَتِهِمْ. وَمَعَ هَذَا: فَلَهُ أَوْقَاتٌ يَبْرُزُ فِيهَا لِرَعِيَّتِهِ، وَيُسَهِّلُ لَهُمُ الدُّخُولَ عَلَيْهِ، وَيَرْفَعُ الْحِجَابَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمْ. فَإِذَا وَقَعَتْ أَبْصَارُهُمْ عَلَيْهِ: تَلَاشَى عِنْدَهُمْ كُلُّ مَا هُمْ فِيهِ مِنَ النَّعِيمِ وَاضْمَحَلَّ، حَتَّى لَا يَلْتَفِتُونَ إِلَى شَيْءٍ مِنْهُ. فَإِذَا أَقْبَلَ عَلَى وَاحِدٍ مِنْهُمْ: أَقْبَلَ عَلَيْهِ سَائِرُ أَهْلِ الْمَمْلَكَةِ بِالتَّعْظِيمِ وَالْإِجْلَالِ. وَنَحْنُ رُسُلُهُ إِلَى أَهْلِ الْبِلَادِ، نَدْعُوهُمْ إِلَى حَضْرَتِهِ. وَهَذِهِ كُتُبُهُ إِلَى النَّاسِ. وَمَعَنَا مِنَ الشُّهُودِ مَا يُزِيلُ سُوءَ الظَّنِّ بِنَا. وَيَدْفَعُ اتِّهَامَنَا بِالْكَذِبِ عَلَيْهِ.
فَلَمَّا سَمِعَ النَّاسُ ذَلِكَ، وَشَاهَدُوا أَحْوَالَ الرُّسُلِ: انْقَسَمُوا أَقْسَامًا.
فَطَائِفَةٌ قَالَتْ: لَا نُفَارِقُ أَوْطَانَنَا، وَلَا نَخْرُجُ مِنْ دِيَارِنَا، وَلَا نَتَجَشَّمُ مَشَقَّةَ السَّفَرِ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute