للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

قُصُودُهُمْ. وَصَحَّ سُلُوكُهُمْ. وَلَنْ يُوقَفَ لَهُمْ عَلَى رَسْمٍ. وَلَمْ يُنْسَبُوا إِلَى اسْمٍ. وَلَمْ يُشَرْ إِلَيْهِمْ بِالْأَصَابِعِ. أُولَئِكَ ذَخَائِرُ اللَّهِ حَيْثُ كَانُوا.

ذَكَرَ لَهُمْ ثَلَاثَ صِفَاتٍ ثُبُوتِيَّةٍ، وَثَلَاثًا سَلْبِيَّةً.

الْأُولَى: عُلُوُّ هِمَمِهِمْ. وَعُلُوُّ الْهِمَّةِ: أَنْ لَا تَقِفَ دُونَ اللَّهِ، وَلَا تَتَعَوَّضَ عَنْهُ بِشَيْءٍ سِوَاهُ. وَلَا تَرْضَى بِغَيْرِهِ بَدَلًا مِنْهُ. وَلَا تَبِيعَ حَظَّهَا مِنَ اللَّهِ وَقُرْبِهِ وَالْأُنْسِ بِهِ، وَالْفَرَحِ وَالسُّرُورِ وَالِابْتِهَاجِ لَهُ، بِشَيْءٍ مِنَ الْحُظُوظِ الْخَسِيسَةِ الْفَانِيَةِ. فَالْهِمَّةُ الْعَالِيَةُ عَلَى الْهِمَمِ: كَالطَّائِرِ الْعَالِي عَلَى الطُّيُورِ. لَا يَرْضَى بِمَسَاقِطِهِمْ، وَلَا تَصِلُ إِلَيْهِ الْآفَاتُ الَّتِي تَصِلُ إِلَيْهِمْ، فَإِنَّ الْهِمَّةَ كُلَّمَا عَلَتْ بَعُدَتْ عَنْ وُصُولِ الْآفَاتِ إِلَيْهَا.

وَكُلَّمَا نَزَلَتْ قَصَدَتْهَا الْآفَاتُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ، فَإِنَّ الْآفَاتِ قَوَاطِعُ وَجَوَاذِبُ، وَهِيَ لَا تَعْلُو إِلَى الْمَكَانِ الْعَالِي فَتَجْتَذِبُ مِنْهُ، وَإِنَّمَا تَجْتَذِبُ مِنَ الْمَكَانِ السَّافِلِ، فَعُلُوُّ هِمَّةِ الْمَرْءِ: عُنْوَانُ فَلَاحِهِ، وَسُفُولُ هِمَّتِهِ: عُنْوَانُ حِرْمَانِهِ.

الْعَلَامَةُ الثَّانِيَةُ: صَفَاءُ الْقَصْدِ، وَهُوَ خَلَاصُهُ مِنَ الشَّوَائِبِ الَّتِي تَعُوقُهُ عَنْ مَقْصُودِهِ، فَصَفَاءُ الْقَصْدِ: تَجْرِيدُهُ لِطَلَبِ الْمَقْصُودِ لَهُ لَا لِغَيْرِهِ، فَهَاتَانِ آفَتَانِ فِي الْقَصْدِ؛ إِحْدَاهُمَا: أَنْ لَا يَتَجَرَّدَ لِمَطْلُوبِهِ. الثَّانِيَةُ: أَنْ يَطْلُبَهُ لِغَيْرِهِ لَا لَذَاتِهِ.

وَصَفَاءُ الْقَصْدِ: يُرَادُ بِهِ الْعَزْمُ الْجَازِمُ عَلَى اقْتِحَامِ بَحْرِ الْفَنَاءِ عِنْدَ الشَّيْخِ وَمَنْ وَافَقَهُ عَلَى أَنَّ الْفَنَاءَ غَايَةٌ.

وَيُرَادُ بِهِ: خُلُوصُ الْقَصْدِ مِنْ كُلِّ إِرَادَةٍ تُزَاحِمُ مُرَادَ الرَّبِّ تَعَالَى، بَلْ يَصِيرُ الْقَصْدُ مُجَرَّدًا لِمُرَادِهِ الدِّينِيِّ الْأَمْرِيِّ، وَهَذِهِ طَرِيقَةُ مَنْ يَجْعَلُ الْغَايَةَ: هِيَ الْفَنَاءُ عَنْ إِرَادَةِ السِّوَى، وَعَلَامَتُهُ: انْدِرَاجُ حَظِّ الْعَبْدِ فِي حَقِّ الرَّبِّ تَعَالَى، بِحَيْثُ يَصِيرُ حَظُّهُ هُوَ نَفْسُ حَقِّ رَبِّهِ عَلَيْهِ، وَلَا يَخْفَى عَلَى الْبَصِيرِ الصَّادِقِ عُلُوُّ هَذِهِ الْمَنْزِلَةِ، وَفَضْلُهَا عَلَى مَنْزِلَةِ الْفَنَاءِ، وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ.

الْعَلَامَةُ الثَّالِثَةُ صِحَّةُ السُّلُوكِ وَهُوَ سَلَامَتُهُ مِنَ الْآفَاتِ وَالْعَوَائِقِ وَالْقَوَاطِعِ، وَهُوَ إِنَّمَا يَصِحُّ بِثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ:

أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ عَلَى الدَّرْبِ الْأَعْظَمِ، الدَّرْبِ النَّبَوِيِّ الْمُحَمَّدِيِّ، لَا عَلَى الْجَوَادِّ الْوَضْعِيَّةِ، وَالرُّسُومِ الِاصْطِلَاحِيَّةِ، وَإِنْ زَخْرَفُوا لَهَا الْقَوْلَ وَدَقَّقُوا لَهَا الْإِشَارَةَ،

<<  <  ج: ص:  >  >>