قَالَ الشَّيْخُ: الْمُكَاشَفَةُ: مُهَادَاةُ السِّرِّ بَيْنَ مُتَبَاطِنَيْنِ، يُرِيدُ أَنَّ الْمُكَاشَفَةَ إِطْلَاعُ أَحَدِ الْمُتَحَابَّيْنِ الْمُتَصَافِيَيْنِ صَاحِبَهُ عَلَى بَاطِنِ أَمْرِهِ وَسِرِّهِ.
قَوْلُهُ: " مُهَادَاةُ السِّرِّ " أَيْ: تَرَدُّدُ السِّرِّ عَلَى وَجْهِ الْإِلْطَافِ وَالْمَوَدَّةِ.
قَوْلُهُ: " بَيْنَ مُتَبَاطِنَيْنِ " يَعْنِي بِالْمُتَبَاطِنَيْنِ: بَاطِنُ الْمُكَاشِفِ وَالْمُكَاشَفِ، فَيُحْمَلُ سِرُّ كُلٍّ مِنْهُمَا إِلَى الْآخَرِ، كَمَا يُحْمَلُ إِلَيْهِ هَدِيَّتُهُ، فَيَسْرِي سِرُّ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا إِلَى الْآخَرِ، وَإِذَا بَلَغَ الْعَبْدُ فِي مَقَامِ الْمَعْرِفَةِ إِلَى حَدٍّ كَأَنَّهُ يُطَالِعُ مَا اتَّصَفَ بِهِ الرَّبُّ سُبْحَانَهُ مِنْ صِفَاتِ الْكَمَالِ، وَنُعُوتِ الْجَلَالِ، وَأَحَسَّتْ رُوحُهُ بِالْقُرْبِ الْخَاصِّ الَّذِي لَيْسَ هُوَ كَقُرْبِ الْمَحْسُوسِ مِنَ الْمَحْسُوسِ، حَتَّى يُشَاهِدَ رَفْعَ الْحِجَابِ بَيْنَ رُوحِهِ وَقَلْبِهِ وَبَيْنَ رَبِّهِ، فَإِنَّ حِجَابَهُ هُوَ نَفْسُهُ، وَقَدْ رَفَعَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ عَنْهُ ذَلِكَ الْحِجَابَ بِحَوْلِهِ وَقُوَّتِهِ أَفْضَى الْقَلْبُ وَالرُّوحُ حِينَئِذٍ إِلَى الرَّبِّ، فَصَارَ يَعْبُدُهُ كَأَنَّهُ يَرَاهُ، فَإِذَا تَحَقَّقَ بِذَلِكَ، وَارْتَفَعَ عَنْهُ حِجَابُ النَّفْسِ، وَانْقَشَعَ عَنْهُ ضَبَابُهَا وَدُخَانُهَا وَكُشِطَتْ عَنْهُ سُحُبُهَا وَغُيُومُهَا، فَهُنَاكَ يُقَالُ لَهُ:
بِذَلِكَ سِرٌّ طَالَ عَنْكَ اكْتَتَامُهُ ... وَلَاحَ صَبَاحٌ كُنْتَ أَنْتَ ظَلَامُهُ
فَأَنْتَ حِجَابُ الْقَلْبِ عَنْ سِرِّ غَيْبِهِ ... وَلَوْلَاكَ لَمْ يُطَبَعْ عَلَيْهِ خِتَامُهُ
فَإِنْ غِبْتَ عَنْهُ حَلَّ فِيهِ وَطَنَّبَتْ ... عَلَى مَنْكِبِ الْكَشْفِ الْمَصُونِ خِيَامُهُ
وَجَاءَ حَدِيثٌ لَا يُمَلُّ سَمَاعُهُ ... شَهِيٌّ إِلَيْنَا نَثْرُهُ وَنِظَامُهُ
إِذَا ذَكَرَتْهُ النَّفْسُ زَالَ عَنَاؤُهَا ... وَزَالَ عَنِ الْقَلْبِ الْكَئِيبِ قَتَامُهُ
فَلِذَلِكَ قَالَ الشَّيْخُ: وَهِيَ فِي هَذَا الْبَابِ: بُلُوغُ مَا وَرَاءَ الْحِجَابِ وُجُودًا.
قَوْلُهُ: " وُجُودًا " احْتِرَازٌ مِنْ بُلُوغِهِ سَمَاعًا وَعِلْمًا، وَكَثِيرًا مَا يَلْتَبِسُ عَلَى الْعَبْدِ أَحَدُهُمَا بِالْآخَرِ، فَأَيْنَ وُجُودُ الْحَقِيقَةِ مِنَ الْعِلْمِ بِهَا وَمَعْرِفَتِهَا؟ كَمَا تَقَدَّمَ ذَلِكَ مِرَارًا، فَتَعَلُّقُ الْعِلْمِ بِالْقَلْبِ شَيْءٌ، وَاتِّصَافُهُ بِالْمَعْلُومِ شَيْءٌ آخَرُ.
فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَعَلَّقُ بِهِ سَمَاعُ ذَلِكَ دُونَ فَهْمِهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَتَعَلَّقُ بِهِ فَهْمُهُ دُونَ حَقِيقَتِهِ، وَالتَّعَلُّقُ الْكَامِلُ أَنْ يَتَعَلَّقَ بِهِ وُجُودُهُ، فَلِذَلِكَ قَالَ: بُلُوغُ مَا وَرَاءَ الْحِجَابِ وُجُودًا.
قَالَ الشَّيْخُ: وَهِيَ عَلَى ثَلَاثِ دَرَجَاتٍ؛ الدَّرَجَةُ الْأُولَى: مُكَاشَفَةٌ تَدُلُّ عَلَى التَّحْقِيقِ الصَّحِيحِ، وَهِيَ لَا تَكُونُ مُسْتَدَامَةً، فَإِذَا كَانَتْ حِينًا دُونَ حِينٍ، وَلَمْ يُعَارِضْهَا