للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

أَجْسَادَهُمْ وَجُثَثَهُمْ وَأَوْصَالَهُمْ، لَا كُفْرَهُمْ وَإِيمَانَهُمْ، وَلَا أَنْسَابَهُمْ وَأَحْسَابَهُمْ، وَلَا حِلْمَهُمْ وَسَفَهَهُمْ، وَلَا طَاعَتَهُمْ وَمَعْصِيَتَهُمْ، وَلَا يَقِينَهُمْ وَشَكَّهُمْ، وَلَا تَوْحِيدَهُمْ وَشِرْكَهُمْ، وَلَا جَوْرَهُمْ وَعَدْلَهُمْ، وَلَا عِلْمَهُمْ وَجَهْلَهُمْ، فَأَخْبَرَتْنَا عَنْ هَذِهِ الْجُثَثِ الْبَالِيَةِ وَالْأَبْدَانِ الْمُتَلَاشِيَةِ، وَالْأَوْصَالِ الْمُتَمَزِّقَةِ، وَقَالَتْ هَذَا خَبْرُ مَا عِنْدِي.

وَأَمَّا خَبْرُ تِلْكَ الْأَرْوَاحِ وَمَا صَارَتْ إِلَيْهِ، فَسَلُوا عَنْهَا كُتُبَ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَرُسُلَهُ الصَّادِقِينَ، وَخُلَفَاءَهُمُ الْوَارِثِينَ، سَلُوا الْقُرْآنَ فَعِنْدَهُ الْخَبَرُ الْيَقِينُ، وَسَلُوا مَنْ جَاءَ بِهِ فَهُوَ بِذَلِكَ أَعْرَفُ الْعَارِفِينَ، وَسَلُوا الْعِلْمَ وَالْإِيمَانَ فَهُمَا الشَّاهِدَانِ الْمَقْبُولَانِ، وَسَلُوا الْعُقُولَ وَالْفِطَرَ فَعِنْدَهَا حَقِيقَةُ الْخَبَرِ {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ} [الجاثية: ٢١] تَعَالَى اللَّهُ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ عَنْ هَذَا الظَّنِّ وَالْحُسْبَانِ، الَّذِي لَا يَلِيقُ إِلَّا بِأَجْهَلِ الْجَاهِلِينَ.

ثُمَّ قَالَ: النَّاظِرُ فِي هَذَا الْبَابِ رَجُلَانِ، رَجُلٌ يَنْظُرُ إِلَى الْأَشْيَاءِ، وَرَجُلٌ يَنْظُرُ فِي الْأَشْيَاءِ، فَالْأَوَّلُ: يَحَارُ فِيهَا، فَإِنَّ صُوَرَهَا وَأَشْكَالَهَا وَتَخَاطِيطَهَا تَسْتَفْرِغُ ذِهْنَهُ وَحِسَّهُ، وَتُبَدِّدُ فِكْرَهُ وَقَلْبَهُ، فَنَظَرُهُ إِلَيْهَا بِعَيْنِ حِسِّهِ، لَا يُفِيدُهُ مِنْهَا ثَمَرَةَ الِاعْتِبَارِ، وَلَا زُبْدَةَ الِاخْتِبَارِ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا فَقَدَ الِاعْتِبَارَ أَوَّلًا، فَإِنَّهُ فَقَدَ الِاخْتِيَارَ ثَانِيًا.

وَأَمَّا النَّاظِرُ فِي الْأَشْيَاءِ: فَإِنَّ نَظَرَهُ يَبْعَثُهُ عَلَى الْعُبُورِ مِنْ صُوَرِهَا إِلَى حَقَائِقِهَا وَالْمُرَادِ بِهَا، وَمَا اقْتَضَى وُجُودُهَا مِنَ الْحِكْمَةِ الْبَالِغَةِ وَالْعِلْمِ التَّامِّ، فَيُفِيدُهُ هَذَا النَّظَرُ تَمْيِيزَ مَرَاتِبِهَا، وَمَعْرِفَةَ نَافِعِهَا مِنْ ضَارِّهَا، وَصَحِيحِهَا مِنْ سَقِيمِهَا، وَبَاقِيهَا مِنْ فَانِيهَا، وَقِشْرِهَا مِنْ لُبِّهَا، وَيُمَيِّزُ بَيْنَ الْوَسِيلَةِ وَالْغَايَةِ، وَبَيْنَ وَسِيلَةِ الشَّيْءِ وَوَسِيلَةِ ضِدِّهِ، فَيَعْرِفُ حِينَئِذٍ أَنَّ الدُّنْيَا قِشْرُهُ وَالْآخِرَةَ لُبُّهُ، وَأَنَّ الدُّنْيَا مَحَلُّ الزَّرْعِ، وَالْآخِرَةَ وَقْتُ الْحَصَادِ، وَأَنَّ الدُّنْيَا مَعْبَرٌ وَمَمَرٌّ، وَالْآخِرَةَ دَارُ مُسْتَقَرٍّ.

وَإِذَا عَرَفَ أَنَّ الدُّنْيَا طَرِيقٌ وَمَمَرٌّ كَانَ حَرِيًّا بِتَهْيِئَةِ الزَّادِ لِقَرَارِهِ، وَيَعْلَمُ حِينَئِذٍ أَنَّهُ لَمْ يَنْشَأْ فِي هَذِهِ الدَّارِ لِلِاسْتِيطَانِ وَالْخُلُودِ، وَلَكِنْ لِلْجَوَازِ إِلَى مَكَانٍ آخَرَ، هُوَ الْمَنْزِلُ وَالْمُتَبَوَّأُ، وَأَنَّ الْإِنْسَانَ دُعِيَ إِلَى ذَلِكَ بِكُلِّ شَرِيعَةٍ، وَعَلَى لِسَانِ كُلِّ نَبِيٍّ، وَبِكُلِّ إِشَارَةٍ وَدَلِيلٍ، وَنُصِبَ لَهُ عَلَى ذَلِكَ عِلْمٌ، وَضُرِبَ لِأَجَلِهِ كُلُّ مَثَلٍ، وَنُبِّهَ عَلَيْهِ بِنَشْأَتِهِ الْأُولَى وَمَبَادِئِهِ، وَسَائِرِ أَحْوَالِهِ، وَأَحْوَالِ طَعَامِهِ وَشَرَابِهِ، وَأَرْضِهِ وَسَمَائِهِ، بِحَيْثُ أُزِيلَتْ عَنْهُ الشُّبْهَةُ، وَأُوْضِحَتْ لَهُ الْمَحَجَّةُ، وَأُقِيمَتْ عَلَيْهِ الْحُجَّةُ، وَأُعْذِرَ إِلَيْهِ غَايَةَ الْإِعْذَارِ،

<<  <  ج: ص:  >  >>