وَقِيلَ: مَثَّلَ حَالَهُ بِحَالِ مَنْ يَرَاهُ بَعْضُ الْمُلُوكِ لِجَوَامِعِ خِصَالٍ فِيهِ وَخَصَائِصٍ أَهْلًا لِكَرَامَتِهِ وَتَقْرِيبِهِ، فَلَا يَكُونُ أَحَدٌ أَقْرَبَ مِنْهُ مَنْزِلَةً إِلَيْهِ، وَلَا أَلْطَفَ مَحَلًّا، فَيَصْطَنِعُهُ بِالْكَرَامَةِ وَالْأَثَرَةِ، وَيَسْتَخْلِصُهُ لِنَفْسِهِ، بِحَيْثُ يَسْمَعُ بِهِ، وَيُبْصِرُ بِهِ، وَيَطَّلِعُ عَلَى سِرِّهِ.
وَالْمَقْصُودُ: أَنَّ الرَّبَّ سُبْحَانَهُ حَالَ بَيْنَ هَؤُلَاءِ الضَّنَائِنَ وَبَيْنَ التَّعَلُّقِ بِالْخَلْقِ، وَصَرَفَ قُلُوبَهُمْ وَهِمَمَهُمْ وَعَزَائِمَهُمْ إِلَيْهِ.
قَالَ: وَهُمْ عَلَى ثَلَاثِ فِرَقٍ: فِرْقَةٌ قَبْضُهُمْ إِلَيْهِ؛ قَبْضُ التَّوَقِّي، فَضَنَّ بِهِمْ عَنْ أَعْيُنِ الْعَالَمِينَ.
هَذَا الْحَرْفُ فِي التَّوَقِّي بِالْقَافِ مِنَ الْوِقَايَةِ، وَلَيْسَ مِنَ الْوَفَاةِ؛ أَيْ: سَتَرَهُمْ عَنْ أَعْيُنِ النَّاسِ، وِقَايَةً لَهُمْ، وَصِيَانَةً عَنْ مُلَابَسَتِهِمْ، فَغَيَّبَهُمْ عَنْ أَعْيُنِ النَّاسِ، فَلَمْ يُطْلِعْهُمْ عَلَيْهِمْ، وَهَؤُلَاءِ هُمْ أَهْلُ الِانْقِطَاعِ وَالْعُزْلَةِ عَنِ النَّاسِ وَقْتَ فَسَادِ الزَّمَانِ، وَلَعَلَّهُمُ الَّذِينَ قَالَ فِيهِمُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «يُوشِكُ أَنْ يَكُونَ خَيْرُ مَالِ الْمَرْءِ غَنَمًا يَتْبَعُ بِهَا شَعَفَ الْجِبَالِ وَمَوَاقِعَ الْقَطْرِ» ، وَقَوْلُهُ: «وَرَجُلٌ مُعْتَزِلٌ فِي شِعْبٍ مِنَ الشِّعَابِ يَعْبُدُ رَبَّهُ، وَيَدَعُ النَّاسَ مِنْ شَرِّهِ» وَهَذِهِ الْحَالُ تُحْمَدُ فِي بَعْضِ الْأَمَاكِنِ وَالْأَوْقَاتِ دُونَ بَعْضِهَا، وَإِلَّا فَالْمُؤْمِنُ الَّذِي يُخَالِطُ النَّاسَ، وَيَصْبِرُ عَلَى أَذَاهُمْ: أَفْضَلُ مِنْ هَؤُلَاءِ، فَالْعُزْلَةُ: فِي وَقْتٍ تَجِبُ فِيهِ، وَوَقْتٍ تُسْتَحَبُّ فِيهِ، وَوَقْتٍ تُبَاحُ فِيهِ، وَوَقْتٍ تُكْرَهُ فِيهِ، وَوَقْتٍ تَحْرُمُ فِيهِ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute