للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ قَبْضَ التَّوَفِّي بِالْفَاءِ أَجْسَادَهُمْ وَقُلُوبَهُمْ مِنْ بَيْنِ الْعَالَمِينَ وَهُمْ فِي الدُّنْيَا، لَكِنْ لَمَّا لَمْ يُخَالِطُوا النَّاسَ كَانُوا بِمَنْزِلَةِ مَنْ قَدْ تُوَفِّي وَفَارَقَ الدُّنْيَا.

قَالَ: وَفِرْقَةٌ قَبَضَهُمْ بِسِتْرِهِمْ فِي لِبَاسِ التَّلْبِيسِ، وَأَسْبَلَ عَلَيْهِمْ أَكِلَّةَ الرُّسُومِ، فَأَخْفَاهُمْ عَنْ عُيُونِ الْعَالَمِ.

هَذِهِ الْفِرْقَةُ: هُمْ مَعَ النَّاسِ مُخَالِطُونَ، وَالنَّاسُ يَرَوْنَ ظَوَاهِرَهُمْ. وَقَدْ سَتَرَ اللَّهُ حَقَائِقَهُمْ وَأَحْوَالَهُمْ عَنْ رُؤْيَةِ الْخَلْقِ لَهَا، فَحَالُهُمْ مُلْتَبِسٌ عَلَى النَّاسِ لَا يَعْرِفُونَهُ، فَإِذَا رَأَوْا مِنْهُمْ مَا يَرَوْنَ مِنْ أَبْنَاءِ الدُّنْيَا مِنَ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ وَاللِّبَاسِ، وَالنِّكَاحِ، وَطَلَاقَةِ الْوَجْهِ، وَحُسْنِ الْعِشْرَةِ قَالُوا: هَؤُلَاءِ مِنْ أَبْنَاءِ الدُّنْيَا، وَإِذَا رَأَوْا ذَلِكَ الْجَدَّ وَالْهِمَمَ، وَالصَّبْرَ وَالصِّدْقَ، وَحَلَاوَةَ الْمَعْرِفَةِ وَالْإِيمَانَ وَالذِّكْرَ، وَشَاهَدُوا مِنْهُمْ أُمُورًا لَيْسَتْ مِنْ أُمُورِ أَبْنَاءِ الدُّنْيَا، قَالُوا: هَؤُلَاءِ مِنْ أَبْنَاءِ الْآخِرَةِ، فَالْتَبَسَ حَالُهُمْ عَلَيْهِمْ، وَهُمْ مَسْتُورُونَ عَنِ النَّاسِ بِأَسْبَابِهِمْ وَصَنَائِعِهِمْ وَلِبَاسِهِمْ، لَمْ يَجْعَلُوا لِطَلَبِهِمْ وَإِرَادَتِهِمْ إِشَارَةً تُشِيرُ إِلَيْهِمْ: اعْرَفُونِي، فَهَؤُلَاءِ يَكُونُونَ مَعَ النَّاسِ، وَالْمَحْجُوبُونَ لَا يَعْرِفُونَهُمْ، وَلَا يَعْرِفُونَ بِهِمْ رُءُوسًا، وَهُمْ مِنْ سَادَاتِ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ، صَانَهُمُ اللَّهُ عَنْ مَعْرِفَةِ النَّاسِ كَرَامَةً لَهُمْ، لِئَلَّا يَفْتَتِنُوا بِهِمْ، وَإِهَانَةً لِلْجُهَّالِ بِهِمْ، فَلَا يَنْتَفِعُونَ بِهِمْ.

وَهَذِهِ الْفِرْقَةُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْأُولَى مِنَ الْفَضْلِ مَا لَا يَعْلَمُهُ إِلَّا اللَّهُ، فَهُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِأَبْدَانِهِمْ، وَبَيْنَ الرَّفِيقِ الْأَعْلَى بِقُلُوبِهِمْ، فَإِذَا فَارَقُوا هَذَا الْعَالَمَ انْتَقَلَتْ أَرْوَاحُهُمْ إِلَى تِلْكَ الْحَضْرَةِ، فَإِنَّ رُوحَ كُلِّ عَبْدٍ تَنْتَقِلُ بَعْدَ مُفَارَقَةِ الْبَدَنِ إِلَى حَضْرَةِ مَنْ كَانَ يَأْلَفُهُمْ وَيُحِبُّهُمْ، فَإِنَّ الْمَرْءَ مَعَ مَنْ أَحَبَّهُ.

<<  <  ج: ص:  >  >>