قَوْلُهُ: " وَأَسْبَلَ عَلَيْهِمْ أَكِلَّةَ الرُّسُومِ " أَيْ: أَجْرَى عَلَيْهِمْ أَحْكَامَ الْخَلْقِ يَأْكُلُونَ كَمَا يَأْكُلُونَ، وَيَشْرَبُونَ كَمَا يَشْرَبُونَ، وَيَسْكُنُونَ حَيْثُ يَسْكُنُونَ، وَيَمْشُونَ مَعَهُمْ فِي الْأَسْوَاقِ، وَيُعَانُونَ مَعَهُمُ الْأَسْبَابَ، وَهُمْ فِي وَادٍ وَالنَّاسُ فِي وَادٍ، فَمُشَارَكَتُهُمْ إِيَّاهُمْ فِي ذَلِكَ هِيَ الَّتِي سَتَرَتْهُمْ عَنْ مَعْرِفَتِهِمْ، وَعَنْ إِدْرَاكِ حَقَائِقِهِمْ فَهُمْ تَحْتَ سُتُورِ الْمُشَارَكَةِ.
وَوَرَاءَ هَاتِيكَ السُّتُورِ مُحَجَّبُ ... بِالْحُسْنِ كُلُّ الْعِزِّ تَحْتَ لِوَائِهِ
لَوْ أَبْصَرَتْ عَيْنَاكَ بَعْضَ جَمَالِهِ ... لَبَذَلْتَ مِنْكَ الرُّوحَ فِي إِرْضَائِهِ
مَا طَابَتِ الدُّنْيَا بِغَيْرِ حَدِيثِهِ ... كَلَّا وَلَا الْأُخْرَى بِدُونِ لِقَائِهِ
يَا خَاسِرًا هَانَتْ عَلَيْهِ نَفْسُهُ ... إِذْ بَاعَهَا بِالْغَبْنِ مِنْ أَعْدَائِهِ
لَوْ كُنْتَ تَعْلَمُ قَدْرَ مَا قَدْ بِعْتَهُ ... لَفَسَخَتْ ذَاكَ الْبَيْعَ قَبْلَ وَفَائِهِ
أَوْ كُنْتَ كُفْوًا لِلرَّشَادِ وَلِلْهُدَى ... أَبْصَرْتَ لَكِنْ لَسْتَ مِنْ أَكْفَائِهِ
قَوْلُهُ: وَفِرْقَةٌ قَبْضُهُمْ مِنْهُمْ إِلَيْهِ، فَصَافَاهُمْ مُصَافَاةَ سِرٍّ، فَضَنَّ بِهِمْ عَلَيْهِمْ. هَذِهِ الْفِرْقَةُ إِنَّمَا كَانَتْ أَعْلَى مِنَ الْفِرْقَتَيْنِ الْمُتَقَدِّمَتَيْنِ: لِأَنَّ الْحَقَّ سُبْحَانَهُ قَدْ سَتَرَهُمْ عَنْ نُفُوسِهِمْ، لِكَمَالِ مَا أَطْلَعَهُمْ عَلَيْهِ، وَشَغَلَهُمْ بِهِ عَنْهُمْ، فَهُمْ فِي أَعْلَى الْأَحْوَالِ وَالْمَقَامَاتِ، وَلَا الْتِفَاتَ لَهُمْ إِلَيْهَا، فَهَؤُلَاءِ قُلُوبُهُمْ مَعَهُ سُبْحَانَهُ لَا مَعَ سِوَاهُ، فَلَمْ يَكُونُوا مَعَ السِّوَى وَلَا السِّوَى مِنْهُمْ، بَلْ هُمْ مَعَ السِّوَى بِالْمُجَاوَرَةِ وَالِامْتِحَانِ، لَا بِالْمُسَاكَنَةِ وَالْأُلْفَةِ، قُلُوبُهُمْ عَامِرَةٌ بِالْأَسْرَارِ، وَأَرْوَاحُهُمْ تَحِنُّ إِلَيْهِ حَنِينَ الطُّيُورِ إِلَى الْأَوْكَارِ، قَدْ سَتَرَهُمْ وَلِيُّهُمْ وَحَبِيبُهُمْ عَنْهُمْ، وَأَخَذَهُمْ إِلَيْهِ مِنْهُمْ.
قَوْلُهُ: " فَصَافَاهُمْ مُصَافَاةَ سِرٍّ " أَيْ: جَعَلَ مَوَاجِيدَهُمْ فِي أَسْرَارِهِمْ وَقُلُوبِهِمْ لِلُطْفِ إِدْرَاكِهِمْ، فَلَمْ تَظْهَرْ عَلَيْهِمْ فِي ظَوَاهِرِهِمْ لِقُوَّةِ الِاسْتِعْدَادِ.
قَوْلُهُ: " فَضَنَّ بِهِمْ عَلَيْهِمْ " أَيْ: أَخَذَهُمْ عَنْ رُسُومِهِمْ، فَأَفْنَاهُمْ عَنْهُمْ. وَأَبْقَاهُمْ بِهِ.
وَقَدْ عَلِمْتَ مِنْ هَذَا: أَنَّ " الْقَبْضَ " الْمُشَارَ إِلَيْهِ فِي هَذَا الْبَابِ: لَيْسَ هُوَ الْقَبْضُ الَّذِي يُشِيرُ إِلَيْهِ الْقَوْمُ فِي الْبِدَايَاتِ وَالسُّلُوكِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute