وَقَالَ أَبُو يَزِيدَ: إِنَّمَا نَالُوا الْمَعْرِفَةَ بِتَضْيِيعِ مَا لَهُمْ وَالْوُقُوفِ مَعَ مَا لَهُ.
يُرِيدُ تَضْيِيعَ حُظُوظِهِمْ، وَالْوُقُوفَ مَعَ حُقُوقِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، فَتُغْنِيهِمْ حُقُوقُهُ عَنْ حُظُوظِهِمْ.
وَقَالَ آخَرُ: لَا يَكُونُ الْعَارِفُ عَارِفًا حَتَّى لَوْ أُعْطِيَ مُلْكَ سُلَيْمَانَ لَمْ يَشْغَلْهُ عَنِ اللَّهِ طَرْفَةَ عَيْنٍ، وَهَذَا يَحْتَاجُ إِلَى شَرْحٍ، فَإِنَّ مَا هُوَ دُونَ ذَلِكَ يَشْغَلُ الْقَلْبَ، لَكِنْ يَكُونُ اشْتِغَالُهُ بِغَيْرِ اللَّهِ لِلَّهِ، فَذَلِكَ اشْتِغَالٌ بِهِ سُبْحَانَهُ؛ لِأَنَّهُ إِذَا اشْتَغَلَ بِغَيْرِهِ لِأَجْلِهِ لَمْ يَشْتَغِلْ عَنْهُ.
قَالَ ابْنُ عَطَاءٍ: الْمَعْرِفَةُ عَلَى ثَلَاثَةِ أَرْكَانٍ: الْهَيْبَةُ وَالْحَيَاءُ وَالْأُنْسُ. وَقِيلَ لِذِي النُّونِ: بِمَ عَرَفْتَ اللَّهَ رَبَّكَ؟ قَالَ: عَرَفْتُ رَبِّي بِرَبِّي، وَلَوْلَا رَبِّي لَمَا عَرَفْتُ رَبِّي. وَقِيلَ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُبَارَكِ: بِمَاذَا نَعْرِفُ رَبَّنَا؟ قَالَ: بِأَنَّهُ فَوْقَ سَمَاوَاتِهِ عَلَى عَرْشِهِ بَائِنٌ مِنْ خَلْقِهِ، فَأَتَى عَبْدُ اللَّهِ بِأَصْلِ الْمَعْرِفَةِ الَّتِي لَا يَصِحُّ لِأَحَدٍ مَعْرِفَةٌ وَلَا إِقْرَارٌ بِاللَّهِ سُبْحَانَهُ إِلَّا بِهِ، وَهُوَ الْمُبَايَنَةُ وَالْعُلُوُّ عَلَى الْعَرْشِ.
وَمِنْ عَلَامَاتِ الْعَارِفِ: أَنْ يَعْتَزِلَ الْخَلْقَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ، حَتَّى كَأَنَّهُمْ أَمْوَاتٌ لَا يَمْلِكُونَ لَهُ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا، وَلَا مَوْتًا وَلَا حَيَاةً وَلَا نُشُورًا، وَيَعْتَزِلُ نَفْسَهُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْخَلْقِ، حَتَّى يَكُونَ بَيْنَهُمْ بِلَا نَفْسٍ، وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِ مَنْ قَالَ: الْعَارِفُ يَقْطَعُ الطَّرِيقَ بِخُطْوَتَيْنِ: خُطْوَةٌ عَنْ نَفْسِهِ، وَخُطْوَةٌ عَنِ الْخَلْقِ.
وَقِيلَ: الْعَارِفُ ابْنُ وَقْتِهِ، وَهَذَا مِنْ أَحْسَنِ الْكَلَامِ وَأَخْصَرِهِ، فَهُوَ مَشْغُولٌ بِوَظِيفَةِ وَقْتِهِ عَمَّا مَضَى، وَصَارَ فِي الْعَدَمِ، وَعَمَّا لَمْ يَدْخُلْ بَعْدُ فِي الْوُجُودِ، فَهَمُّهُ عِمَارَةُ وَقْتِهِ الَّذِي هُوَ مَادَّةُ حَيَاتِهِ الْبَاقِيَةِ.
وَمِنْ عَلَامَاتِهِ: أَنَّهُ مُسْتَأْنِسٌ بِرَبِّهِ، مُسْتَوْحِشٌ مِمَّنْ يَقْطَعُهُ عَنْهُ، وَلِهَذَا قِيلَ: الْعَارِفُ مَنْ أَنِسَ بِاللَّهِ، فَأَوْحَشَهُ مِنَ الْخَلْقِ، وَافْتَقَرَ إِلَى اللَّهِ فَأَغْنَاهُ عَنْهُمْ، وَذَلَّ لِلَّهِ فَأَعَزَّهُ فِيهِمْ، وَتَوَاضَعَ لِلَّهِ فَرَفَعَهُ بَيْنَهُمْ، وَاسْتَغْنَى بِاللَّهِ فَأَحْوَجَهُمْ إِلَيْهِ.
وَقِيلَ: الْعَارِفُ فَوْقَ مَا يَقُولُ، وَالْعَالِمُ دُونَ مَا يَقُولُ، يَعْنِي أَنَّ الْعَالِمَ عِلْمُهُ أَوْسَعُ مِنْ حَالِهِ وَصِفَتِهِ، وَالْعَارِفُ حَالُهُ وَصِفَتُهُ فَوْقَ كَلَامِهِ وَخَبَرِهِ.
وَقَالَ أَبُو سُلَيْمَانَ الدَّارَانِيُّ: إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَفْتَحُ لِلْعَارِفِ عَلَى فِرَاشِهِ مَا لَمْ يَفْتَحْ لَهُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي، وَقَالَ غَيْرُهُ: الْعَارِفُ تَنْطِقُ الْمَعْرِفَةُ عَلَى قَلْبِهِ وَحَالِهِ وَهُوَ سَاكِتٌ.
وَقَالَ ذُو النُّونِ: لِكُلِّ شَيْءٍ عُقُوبَةٌ. وَعُقُوبَةُ الْعَارِفِ انْقِطَاعُهُ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ.