للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وَقَالَ بَعْضُهُمْ: رِيَاءُ الْعَارِفِينَ أَفْضَلُ مِنْ إِخْلَاصِ الْمُرِيدِينَ، وَهَذَا كَلَامٌ ظَاهِرُهُ مُنْكَرٌ جِدًّا يَحْتَاجُ إِلَى شَرْحٍ، فَالْعَارِفُ لَا يُرَائِي الْمَخْلُوقَ طَلَبًا لِلْمَنْزِلَةِ فِي قَلْبِهِ وَإِنَّمَا يَكُونُ رِيَاؤُهُ نَصِيحَةً وَإِرْشَادًا وَتَعْلِيمًا لِيُقْتَدَى بِهِ، فَهُوَ يَدْعُو إِلَى اللَّهِ بِعَمَلِهِ كَمَا يَدْعُو إِلَيْهِ بِقَوْلِهِ، فَهُوَ يَنْتَفِعُ بِعِلْمِهِ وَيَنْفَعُ بِهِ غَيْرَهُ، وَإِخْلَاصُ الْمُرِيدِ مَقْصُورٌ عَلَى نَفْسِهِ، فَالْعَارِفُ جَمَعَ بَيْنَ الْإِخْلَاصِ وَالدَّعْوَةِ إِلَى اللَّهِ، فَإِخْلَاصُهُ فِي قَلْبِهِ، وَهُوَ يُظْهِرُ عَمَلَهُ وَحَالَهُ لِيُقْتَدَى بِهِ، وَالْعَارِفُ يَنْفَعُ بِسُكُوتِهِ، وَالْعَالِمُ إِنَّمَا يَنْفَعُ بِكَلَامِهِ.

وَلَوْ سَكَتُوا أَثْنَتْ عَلَيْكَ الْحَقَائِقُ

وَقَالَ ذُو النُّونِ: الزُّهَّادُ مُلُوكُ الْآخِرَةِ، وَهُمْ فُقَرَاءُ الْعَارِفِينَ. وَسُئِلَ الْجُنَيْدُ عَنِ الْعَارِفِ؟ فَقَالَ: لَوْنُ الْمَاءِ لَوْنُ إِنَائِهِ، وَهَذِهِ كَلِمَةٌ رَمَزَ بِهَا إِلَى حَقِيقَةِ الْعُبُودِيَّةِ، وَهُوَ أَنْ يَتَلَوَّنَ بِتَلَوُّنِ أَقْسَامِ الْعُبُودِيَّةِ، فَبَيْنَمَا تَرَاهُ مُصَلِّيًا إِذْ رَأَيْتَهُ ذَاكِرًا، أَوْ قَارِئًا، أَوْ مُعَلِّمًا، أَوْ مُتَعَلِّمًا، أَوْ مُجَاهِدًا، أَوْ حَاجًّا، أَوْ مُسَاعِدًا لِلضَّيْفِ، أَوْ مُغِيثًا لِلْمَلْهُوفِ، فَيَضْرِبُ فِي كُلِّ غَنِيمَةٍ مِنَ الْغَنَائِمِ بِسَهْمٍ، فَهُوَ مَعَ الْمُتَسَبِّبِينَ مُتَسَبِّبٌ، وَمَعَ الْمُتَعَلِّمِينَ مُتَعَلِّمٌ، وَمَعَ الْغُزَاةِ غَازٍ، وَمَعَ الْمُصَلِّينَ مُصَلٍّ، وَمَعَ الْمُتَصَدِّقِينَ مُتَصَدِّقٌ، فَهُوَ يَتَنَقَّلُ فِي مَنَازِلِ الْعُبُودِيَّةِ مِنْ عُبُودِيَّةٍ إِلَى عُبُودِيَّةٍ، وَهُوَ مُقِيمٌ عَلَى مَعْبُودٍ وَاحِدٍ، لَا يَنْتَقِلُ إِلَى غَيْرِهِ.

وَقَالَ يَحْيَى بْنُ مُعَاذٍ: الْعَارِفُ كَائِنٌ بَائِنٌ، وَهَذَا يُفَسَّرُ عَلَى وُجُوهٍ.

مِنْهَا: أَنَّهُ كَائِنٌ مَعَ الْخَلْقِ بِظَاهِرِهِ، بَائِنٌ عَنْهُمْ بِسِرِّهِ وَقَلْبِهِ.

وَمِنْهَا: أَنَّهُ كَائِنٌ بِرَبِّهِ بَائِنٌ عَنْ نَفْسِهِ.

وَمِنْهَا: أَنَّهُ كَائِنٌ مَعَ أَبْنَاءِ الْآخِرَةِ، بَائِنٌ عَنْ أَبْنَاءِ الدُّنْيَا.

وَمِنْهَا: أَنَّهُ كَائِنٌ مَعَ اللَّهِ بِمُوَافَقَتِهِ، بَائِنٌ عَنِ النَّاسِ فِي مُخَالَفَتِهِ.

وَمِنْهَا: أَنَّهُ دَاخِلٌ فِي الْأَشْيَاءِ خَارِجٌ مِنْهَا، فَإِنَّ مِنَ النَّاسِ مَنْ هُوَ دَاخِلٌ فِيهَا لَا يَقْدِرُ عَلَى الْخُرُوجِ مِنْهَا، وَمِنْهُمْ مَنْ هُوَ خَارِجٌ عَنْهَا لَا يَقْدِرُ عَلَى الدُّخُولِ فِيهَا، وَالْعَارِفُ دَاخِلٌ فِيهَا خَارِجٌ مِنْهَا، وَلَعَلَّ هَذَا أَحْسَنُ الْوُجُوهِ.

وَقَالَ ذُو النُّونِ: عَلَامَةُ الْعَارِفِ ثَلَاثَةٌ: لَا يُطْفِئُ نُورُ مَعْرِفَتِهِ نُورَ وَرَعِهِ، وَلَا يَعْتَقِدُ بَاطِنًا مِنَ الْعِلْمِ يَنْقُضُهُ عَلَيْهِ ظَاهِرٌ مِنَ الْحُكْمِ، وَلَا تَحْمِلُهُ كَثْرَةُ نِعَمِ اللَّهِ عَلَى هَتْكِ أَسْتَارِ مَحَارِمِ اللَّهِ.

وَهَذَا مِنْ أَحْسَنِ الْكَلَامِ الَّذِي قِيلَ فِي الْمَعْرِفَةِ، وَهُوَ مُحْتَاجٌ إِلَى شَرْحٍ، فَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ يَرَى أَنَّ التَّوَرُّعَ عَنِ الْأَشْيَاءِ مِنْ قِلَّةِ الْمَعْرِفَةِ، فَإِنَّ الْمَعْرِفَةَ مُتَّسِعَةُ الْأَكْنَافِ، وَاسِعَةُ الْأَرْجَاءِ. فَالْعَارِفُ وَاسِعٌ مُوَسَّعٌ، وَالسِّعَةُ تُطْفِئُ نُورَ الْوَرَعِ، فَالْعَارِفُ لَا تَنْقُصُ

<<  <  ج: ص:  >  >>