للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

مَعْرِفَتُهُ وَرَعَهُ، وَلَا يُخَالِفُ وَرَعُهُ مَعْرِفَتَهُ، كَمَا قَالَ بَعْضُهُمُ: الْعَارِفُ لَا يُنْكِرُ مُنْكَرًا؛ لِاسْتِبْصَارِهِ بِسِرِّ اللَّهِ فِي الْقَدَرِ، فَعِنْدَهُ: أَنْ مُشَاهَدَةَ الْقَدَرِ وَالْحَقِيقَةِ الْكَوْنِيَّةِ: هُوَ غَايَةُ الْمَعْرِفَةِ، وَإِذَا شَاهَدَ الْحَقِيقَةَ عَذَرَ الْخَلِيقَةَ؛ لِأَنَّهُمْ مَأْسُورُونَ فِي قَبْضَةِ الْقَدَرِ، فَمَنْ يَعْذُرُ أَصْحَابَ الْكَبَائِرِ وَالْجَرَائِمِ، بَلْ أَرْبَابَ الْكُفْرِ فَهُوَ أَبْعَدُ خَلْقِ اللَّهِ عَنِ الْوَرَعِ، بَلْ لِظَلَامِ مَعْرِفَتِهِ قَدْ أَطْفَأَ نُورَ إِيمَانِهِ.

قَوْلُهُ " بَاطِنُ الْعِلْمِ الَّذِي يَنْقُضُهُ ظَاهِرُ الْحُكْمِ " فَإِنَّهُ يُشِيرُ بِهِ إِلَى مَا عَلَيْهِ الْمُنْحَرِفُونَ، مِمَّنْ يُنْسَبُ إِلَى السُّلُوكِ، فَإِنَّهُمْ يَقَعُ لَهُمْ أَذْوَاقٌ وَمَوَاجِيدُ، وَوَارِدَاتٌ تُخَالِفُ الْحُكْمَ الشَّرْعِيَّ، وَتَكُونُ تِلْكَ مَعْلُومَةً لَهُمْ لَا يُمْكِنُهُمْ جَحْدُهَا، فَيَعْتَقِدُونَهَا وَيَتْرُكُونَ بِهَا ظَاهِرَ الْحُكْمِ، وَهَذَا كَثِيرٌ جِدًّا، وَهُوَ الَّذِي انْتَقَدَ أَئِمَّةَ الطَّرِيقِ عَلَى هَؤُلَاءِ، وَصَاحُوا بِهِمْ مِنْ كُلِّ نَاحِيَةٍ، وَبَدَّعُوهُمْ وَضَلَّلُوهُمْ بِهِ.

قَوْلُهُ " وَلَا تَحْمِلُهُ كَثْرَةُ نِعَمِ اللَّهِ عَلَى هَتْكِ أَسْتَارِ مَحَارِمِ اللَّهِ " كَثْرَةُ النِّعَمِ تُطْغِي الْعَبْدَ، وَتَحْمِلُهُ عَلَى أَنْ يَصْرِفَهَا فِي وُجُوهِهَا وَغَيْرِ وُجُوهِهَا، وَهِيَ تَدْعُو إِلَى أَنْ يَتَنَاوَلَ الْعَبْدُ بِهَا مَا حَلَّ وَمَا لَا يَحِلُّ، وَأَكْثَرُ الْمُنْعَمِ عَلَيْهِمْ لَا يَقْتَصِرُونَ فِي صَرْفِ النِّعْمَةِ عَلَى الْقَدْرِ الْحَلَالِ، بَلْ يَتَعَدَّاهُ إِلَى غَيْرِهِ، وَتُسَوِّلُ لَهُ نَفْسُهُ أَنَّ مَعْرِفَتَهُ بِاللَّهِ تَرُدُّ عَلَيْهِ مَا انْتَهَبَتْهُ مِنْهُمْ أَيْدِي الشَّهَوَاتِ وَالْمُخَالَفَاتِ، وَيَقُولُ: الْعَارِفُ لَا تَضُرُّهُ الذُّنُوبُ، كَمَا تَضُرُّ الْجَاهِلَ، وَرُبَّمَا يُسَوَّلُ لَهُ أَنَّ ذُنُوبَهُ خَيْرٌ مِنْ طَاعَاتِ الْجُهَّالِ، وَهَذَا مِنْ أَعْظَمِ الْمَكْرِ، وَالْأَمْرُ بِضِدِّ ذَلِكَ، فَيُحْتَمَلُ مِنَ الْجَاهِلِ مَا لَا يُحْتَمَلُ مِنَ الْعَارِفِ وَإِذَا عُوقِبَ الْجَاهِلُ ضِعْفًا عُوقِبَ الْعَارِفُ ضِعْفَيْنِ، وَقَدْ دَلَّ عَلَى هَذَا شَرْعُ اللَّهِ وَقَدَرُهُ، وَلِهَذَا كَانَتْ عُقُوبَةُ الْحُرِّ فِي الْحُدُودِ مِثْلَيْ عُقُوبَةِ الْعَبْدِ، وَقَالَ تَعَالَى فِي نِسَاءِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - {يَانِسَاءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ} [الأحزاب: ٣٠] فَإِذَا أُكْمِلَتِ النِّعْمَةُ عَلَى الْعَبْدِ، فَقَابَلَهَا بِالْإِسَاءَةِ وَالْعِصْيَانِ: كَانَتْ عُقُوبَتُهُ أَعْظَمَ، فَدَرَجَتُهُ أَعْلَى وَعُقُوبَتُهُ أَشَدُّ.

وَقَالَ أَيْضًا: لَيْسَ بِعَارِفٍ مَنْ وَصَفَ الْمَعْرِفَةِ عِنْدَ أَبْنَاءِ الْآخِرَةِ، فَكَيْفَ عِنْدَ أَبْنَاءِ الدُّنْيَا؟ يُرِيدُ: أَنَّهُ لَيْسَ مِنَ الْمَعْرِفَةِ وَصْفُ الْمَعْرِفَةِ لِغَيْرِ أَهْلِهَا، سَوَاءٌ كَانُوا عُبَّادًا، أَوْ مِنْ أَبْنَاءِ الدُّنْيَا.

وَقَالَ أَبُو سَعِيدٍ: الْمَعْرِفَةُ تَأْتِي مِنْ عَيْنِ الْوُجُودِ، وَبَذْلِ الْمَجْهُودِ، وَهَذَا كَلَامٌ حَسَنٌ، يُشِيرُ إِلَى أَنَّ الْمَعْرِفَةَ ثَمَرَةُ بَذْلِ الْمَجْهُودِ فِي الْأَعْمَالِ، وَتَحَقُّقِ الْوَجْدِ فِي

<<  <  ج: ص:  >  >>