للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

الْأَمْرُ الْأَوَّلُ: الْفَنَاءُ فِي شُهُودِ الرُّبُوبِيَّةِ وَالْقَيُّومِيَّةِ، فَيَشْهَدُ تَفَرُّدَ الرَّبِّ تَعَالَى بِالْقَيُّومِيَّةِ وَالتَّدْبِيرِ، وَالْخَلْقِ وَالرِّزْقِ، وَالْعَطَاءِ وَالْمَنْعِ، وَالضُّرِّ وَالنَّفْعِ، وَأَنَّ جَمِيعَ الْمَوْجُودَاتِ مُنْفَعِلَةٌ لَا فَاعِلَةٌ، وَمَا لَهُ مِنْهَا فِعْلٌ فَهُوَ مُنْفَعِلٌ فِي فِعْلِهِ، مَحَلُّ مَحْضٍ لِجَرَيَانِ أَحْكَامِ الرُّبُوبِيَّةِ عَلَيْهِ، لَا يَمْلِكُ شَيْئًا مِنْهَا لِنَفْسِهِ وَلَا لِغَيْرِهِ، فَلَا يَمْلِكُ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا، فَإِذَا تَحَقَّقَ الْعَبْدُ بِهَذَا الْمَشْهَدِ؛ خَمَدَتْ مِنْهُ الْخَوَاطِرُ وَالْإِرَادَاتُ، نَظَرًا إِلَى الْقَيُّومِ الَّذِي بِيَدِهِ تَدْبِيرُ الْأُمُورِ، وَشَخُوصًا مِنْهُ إِلَى مَشِيئَتِهِ وَحِكْمَتِهِ فَهُوَ نَاظِرٌ مِنْهُ بِهِ إِلَيْهِ، فَانٍ بِشُهُودِهِ عَنْ شُهُودِ مَا سِوَاهُ، وَمَعَ هَذَا فَهُوَ سَاعٍ فِي طَلَبِ الْوُصُولِ إِلَيْهِ، قَائِمًا بِالْوَاجِبَاتِ وَالنَّوَافِلِ.

الْأَمْرُ الثَّانِي: الْفَنَاءُ فِي مَشْهَدِ الْإِلَهِيَّةِ، وَحَقِيقَتُهُ " الْفَنَاءُ " عَنْ إِرَادَةِ مَا سِوَى اللَّهِ وَمَحَبَّتِهِ، وَالْإِنَابَةِ إِلَيْهِ، وَالتَّوَكُّلِ عَلَيْهِ، وَخَوْفِهِ وَرَجَائِهِ، فَيَفْنَى بِحُبِّهِ عَنْ حُبِّ مَا سِوَاهُ، وَبِخَوْفِهِ وَرَجَائِهِ عَنْ خَوْفِ مَا سِوَاهُ وَرَجَائِهِ، وَحَقِيقَةُ هَذَا الْفَنَاءِ إِفْرَادُ الرَّبِّ سُبْحَانَهُ بِالْمَحَبَّةِ، وَالْخَوْفِ وَالرَّجَاءِ، وَالتَّعْظِيمِ وَالْإِجْلَالِ، وَنَحْنُ نُشِيرُ إِلَى مَبَادِئِ ذَلِكَ وَتَوَسُّطِهِ وَغَايَتِهِ، فَنَقُولُ:

اعْلَمْ أَنَّ الْقَلْبَ إِذَا خَلَا مِنَ الِاهْتِمَامِ بِالدُّنْيَا وَالتَّعَلُّقِ بِمَا فِيهَا مِنْ مَالٍ، أَوْ رِيَاسَةٍ أَوْ صُورَةٍ، وَتَعَلَّقَ بِالْآخِرَةِ، وَالِاهْتِمَامِ بِهَا مِنْ تَحْصِيلِ الْعُدَّةِ، وَالتَّأَهُّبِ لِلْقُدُومِ عَلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فَذَلِكَ أَوَّلُ فُتُوحِهِ، وَتَبَاشِيرُ فَجْرِهِ، فَعِنْدَ ذَلِكَ يَتَحَرَّكُ قَلْبُهُ لِمَعْرِفَةِ مَا يَرْضَى بِهِ رَبُّهُ مِنْهُ، فَيَفْعَلُهُ وَيَتَقَرَّبُ بِهِ إِلَيْهِ، وَمَا يُسْخِطُهُ مِنْهُ، فَيَجْتَنِبُهُ، وَهَذَا عُنْوَانُ صِدْقِ إِرَادَتِهِ، فَإِنَّ كُلَّ مَنْ أَيْقَنَ بِلِقَاءِ اللَّهِ، وَأَنَّهُ سَائِلُهُ عَنْ كَلِمَتَيْنِ - يُسْأَلُ عَنْهُمُ الْأَوَّلُونَ وَالْآخِرُونَ - مَاذَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ؟ وَمَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ؟ لَابُدَّ أَنْ يَتَنَبَّهَ لِطَلَبِ مَعْرِفَةِ مَعْبُودِهِ، وَالطَّرِيقِ الْمُوصِلَةِ إِلَيْهِ، فَإِذَا تَمَكَّنَ فِي ذَلِكَ فَتَحَ لَهُ بَابَ الْأُنْسِ بِالْخَلْوَةِ وَالْوَحْدَةِ وَالْأَمَاكِنِ الْخَالِيَةِ الَّتِي تَهْدَأُ فِيهَا الْأَصْوَاتُ وَالْحَرَكَاتُ، فَلَا شَيْءَ أَشْوَقُ إِلَيْهِ مِنْ ذَلِكَ، فَإِنَّهَا تَجْمَعُ عَلَيْهِ قُوَى قَلْبِهِ وَإِرَادَتِهِ، وَتَسُدُّ عَلَيْهِ الْأَبْوَابَ الَّتِي تُفَرِّقُ هَمَّهُ وَتَشِتُّ قَلْبَهُ، فَيَأْنَسُ بِهَا وَيَسْتَوْحِشُ مِنَ الْخَلْقِ.

ثُمَّ يَفْتَحُ لَهُ بَابَ حَلَاوَةِ الْعِبَادَةِ بِحَيْثُ لَا يَكَادُ يَشْبَعُ مِنْهَا، وَيَجِدُ فِيهَا مِنَ اللَّذَّةِ وَالرَّاحَةِ أَضْعَافَ مَا كَانَ يَجِدُهُ فِي لَذَّةِ اللَّهْوِ، وَاللَّعِبِ، وَنَيْلِ الشَّهَوَاتِ، بِحَيْثُ إِنَّهُ إِذَا دَخَلَ فِي الصَّلَاةِ، وَدَّ أَنْ لَا يَخْرُجَ مِنْهَا، ثُمَّ يَفْتَحُ لَهُ بَابَ حَلَاوَةِ اسْتِمَاعِ كَلَامِ اللَّهِ فَلَا يَشْبَعُ مِنْهُ، وَإِذَا سَمِعَهُ هَدَأَ قَلْبُهُ بِهِ كَمَا يَهْدَأُ الصَّبِيُّ إِذَا أُعْطِيَ مَا هُوَ شَدِيدُ الْمَحَبَّةِ لَهُ، ثُمَّ يَفْتَحُ لَهُ بَابَ شُهُودِ عَظَمَةِ اللَّهِ الْمُتَكَلَّمِ بِهِ وَجَلَالِهِ، وَكَمَالِ نُعُوتِهِ وَصِفَاتِهِ وَحِكْمَتِهِ، وَمَعَانِي خِطَابِهِ، بِحَيْثُ يَسْتَغْرِقُ قَلْبُهُ فِي ذَلِكَ حَتَّى يَغِيبَ فِيهِ، وَيُحِسُّ بِقَلْبِهِ وَقَدْ دَخَلَ

<<  <  ج: ص:  >  >>