للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

فِي عَالَمٍ آخَرَ غَيْرِ مَا النَّاسُ فِيهِ.

ثُمَّ يَفْتَحُ لَهُ بَابَ الْحَيَاءِ مِنَ اللَّهِ، وَهُوَ أَوَّلُ شَوَاهِدِ الْمَعْرِفَةِ، وَهُوَ نُورٌ يَقَعُ فِي الْقَلْبِ، يُرِيهِ ذَلِكَ النُّورُ أَنَّهُ وَاقِفٌ بَيْنَ يَدَيْ رَبِّهِ عَزَّ وَجَلَّ، فَيَسْتَحِي مِنْهُ فِي خَلَوَاتِهِ، وَجَلَوَاتِهِ، وَيُرْزَقُ عِنْدَ ذَلِكَ دَوَامَ الْمُرَاقَبَةِ لِلرَّقِيبِ، وَدَوَامَ التَّطَلُّعِ إِلَى حَضْرَةِ الْعَلِيِّ الْأَعْلَى، حَتَّى كَأَنَّهُ يَرَاهُ وَيُشَاهِدُهُ فَوْقَ سَمَاوَاتِهِ، مُسْتَوِيًا عَلَى عَرْشِهِ، نَاظِرًا إِلَى خَلْقِهِ، سَامِعًا لِأَصْوَاتِهِمْ، مُشَاهِدًا لِبَوَاطِنِهِمْ، فَإِذَا اسْتَوْلَى عَلَيْهِ هَذَا الشَّاهِدُ غَطَّى عَلَيْهِ كَثِيرًا مِنَ الْهُمُومِ بِالدُّنْيَا وَمَا فِيهَا، فَهُوَ فِي وُجُودٍ وَالنَّاسُ فِي وُجُودٍ آخَرَ، هُوَ فِي وُجُودٍ بَيْنِ يَدَيْ رَبِّهِ وَوَلِيِّهِ، نَاظِرًا إِلَيْهِ بِقَلْبِهِ، وَالنَّاسُ فِي حِجَابِ عَالَمِ الشَّهَادَةِ فِي الدُّنْيَا، فَهُوَ يَرَاهُمْ وَهُمْ لَا يَرَوْنَهُ، وَلَا يَرَوْنَ مِنْهُ إِلَّا مَا يُنَاسِبُ عَالَمَهُمْ وَوُجُودَهُمْ.

ثُمَّ يَفْتَحُ لَهُ بَابَ الشُّعُورِ بِمَشْهَدِ الْقَيُّومِيَّةِ، فَيَرَى سَائِرَ التَّقَلُّبَاتِ الْكَوْنِيَّةِ وَتَصَارِيفَ الْوُجُودِ بِيَدِهِ سُبْحَانَهُ وَحْدَهُ، فَيَشْهَدُهُ مَالِكَ الضُّرِّ وَالنَّفْعِ، وَالْخَلْقِ وَالرِّزْقِ، وَالْإِحْيَاءِ وَالْإِمَاتَةِ، فَيَتَّخِذُهُ وَحْدَهُ وَكِيلًا، وَيَرْضَى بِهِ رَبًّا وَمُدَبِّرًا وَكَافِيًا، وَعِنْدَ ذَلِكَ إِذَا وَقَعَ نَظَرُهُ عَلَى شَيْءٍ مِنَ الْمَخْلُوقَاتِ دَلَّهُ عَلَى خَالِقِهِ وَبَارِئِهِ، وَصِفَاتِ كَمَالِهِ وَنُعُوتِ جَلَالِهِ، فَلَا يَحْجُبُهُ خَلْقُهُ عَنْهُ سُبْحَانَهُ، بَلْ يُنَادِيهِ كُلٌّ مِنَ الْمَخْلُوقَاتِ بِلِسَانِ حَالِهِ: اسْمَعْ شَهَادَتِي لِمَنْ أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ، فَأَنَا صُنْعُ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ.

فَإِذَا اسْتَمَرَّ لَهُ ذَلِكَ فَتَحَ عَلَيْهِ بَابَ الْقَبْضِ وَالْبَسْطِ، فَيَقْبِضُ عَلَيْهِ حَتَّى يَجِدَ أَلَمَ الْقَبْضِ لِقُوَّةِ وَارِدِهِ، ثُمَّ يَقْبِضُ وِعَاءَهُ بِأَنْوَارِ الْوُجُودِ، فَيَفْنَى عَنْ وُجُودِهِ، وَيَنْمَحِي كَمَا يَمْحُو نُورُ الشَّمْسِ نُورَ الْكَوَاكِبِ، وَيَطْوِي الْكَوْنَ عَنْ قَلْبِهِ بِحَيْثُ لَا يَبْقَى فِيهِ إِلَّا اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ، وَتَفِيضُ أَنْوَارُ الْمَعْرِفَةِ وَالْمُعَامَلَةِ وَالصِّدْقِ وَالْإِخْلَاصِ وَالْمَحَبَّةِ مِنْ قَلْبِهِ، كَمَا يَفِيضُ نُورُ الشَّمْسِ عَنْ جِرْمِهَا، فَيَغْرَقُ حِينَئِذٍ فِي الْأَنْوَارِ كَمَا يَغْرَقُ رَاكِبُ الْبَحْرِ فِي الْبَحْرِ، وَذَلِكَ إِنَّمَا يَكُونُ فِي الرِّيَاضَةِ وَالْمُجَاهَدَةِ، وَزَوَالِ أَحْكَامِ الطَّبِيعَةِ، وَطُولِ الْوُقُوفِ فِي الْبَابِ.

وَهَذَا هُوَ مِنْ عِلْمِ الْيَقِينِ، لَا مِنْ عَيْنِ الْيَقِينِ، وَلَا مِنْ حَقِّ الْيَقِينِ، إِذْ لَا سَبِيلَ إِلَيْهِمَا فِي الدَّارِ، فَإِنَّ عَيْنَ الْيَقِينِ مُشَاهَدَةٌ، وَحَقَّ الْيَقِينِ مُبَاشَرَةٌ، نَعَمْ قَدْ يَكُونُ حَقُّ الْيَقِينِ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْوُجُودِ الذِّهْنِيِّ، وَمَا يَقُومُ بِالْقُلُوبِ فَقَطْ، لَيْسَ إِلَّا، كَمَا تَقَدَّمَ تَقْرِيرُهُ مِرَارًا، وَنَحْنُ لَا تَأْخُذُنَا فِي ذَلِكَ لَوْمَةُ لَائِمٍ، وَهُمْ لَا تَأْخُذُهُمْ فِي كَوْنِ ذَلِكَ فِي الْعِيَانِ لَوْمَةُ لَائِمٍ وَهُمْ عِنْدَنَا صَادِقُونَ مَلْبُوسٌ عَلَيْهِمْ، وَنَحْنُ عِنْدَهُمْ مَحْجُوبُونَ عَنْ ذَلِكَ غَيْرُ وَاصِلِينَ إِلَيْهِ.

<<  <  ج: ص:  >  >>