للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

فَإِنِ اسْتَمَرَّ عَلَى حَالِهِ وَاقِفًا بِبَابِ مَوْلَاهُ، لَا يَلْتَفِتُ عَنْهُ يَمِينًا وَلَا شِمَالًا، وَلَا يُجِيبُ غَيْرَ مَنْ يَدْعُوهُ إِلَيْهِ، وَيَعْلَمُ أَنَّ الْأَمْرَ وَرَاءَ ذَلِكَ، وَأَنَّهُ لَمْ يَصِلْ بَعْدُ، وَمَتَى تَوَهَّمَ أَنَّهُ قَدْ وَصَلَ انْقَطَعَ عَنْهُ الْمَزِيدُ - رُجِيَ أَنْ يُفْتَحَ لَهُ فَتْحٌ آخَرُ، هُوَ فَوْقَ مَا كَانَ فِيهِ، مُسْتَغْرِقًا قَلْبُهُ فِي أَنْوَارِ مُشَاهَدَةِ الْجَلَالِ بَعْدَ ظُهُورِ أَنْوَارِ الْوُجُودِ الْحَقِّ، وَمَحْوِ وُجُودِهِ هُوَ، وَلَا يَتَوَهَّمُ أَنَّ وُجُودَ صِفَاتِهِ وَذَاتِهِ تَبْطُلُ، بَلِ الَّذِي يَبْطُلُ هُوَ وُجُودُهُ النَّفْسَانِيُّ الطَّبْعِيُّ، وَيَبْقَى لَهُ وُجُودٌ قَلْبِيٌّ رُوحَانِيٌّ مَلَكِيٌّ، فَيَبْقَى قَلْبُهُ سَابِحًا فِي بَحْرٍ مِنْ أَنْوَارِ آثَارِ الْجَلَالِ، فَتَنْبُعُ الْأَنْوَارُ مِنْ بَاطِنِهِ، كَمَا يَنْبُعُ الْمَاءُ مِنَ الْعَيْنِ، حَتَّى يَجِدَ الْمَلَكُوتَ الْأَعْلَى كَأَنَّهُ فِي بَاطِنِهِ وَقَلْبِهِ، وَيَجِدُ قَلْبَهُ عَالِيًا عَلَى ذَلِكَ كُلِّهِ، صَاعِدًا إِلَى مَنْ لَيْسَ فَوْقَهُ شَيْءٌ، ثُمَّ يُرَقِّيهُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ، فَيُشْهِدُهُ أَنْوَارَ الْإِكْرَامِ بَعْدَ مَا شَهِدَ أَنْوَارَ الْجَلَالِ، فَيَسْتَغْرِقُ فِي نُورٍ مِنْ أَنْوَارِ أَشِعَّةِ الْجَمَالِ، وَفِي هَذَا الْمَشْهَدِ يَذُوقُ الْمَحَبَّةَ الْخَاصَّةَ الْمُلْهِبَةَ لِلْأَرْوَاحِ وَالْقُلُوبِ، فَيَبْقَى الْقَلْبُ مَأْسُورًا فِي يَدِ حَبِيبِهِ وَوَلِيِّهِ، مَمْتَحَنًا بِحُبِّهِ، وَإِنْ شِئْتَ أَنْ تَفْهَمَ ذَلِكَ تَقْرِيبًا، فَانْظُرْ إِلَيْكَ وَإِلَى غَيْرِكَ - وَقَدِ امْتُحِنْتَ بِصُورَةٍ بَدِيعَةِ الْجَمَالِ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا - فَمَلَكَتْ عَلَيْكَ قَلْبَكَ وَفِكْرَكَ، وَلَيْلَكَ وَنَهَارَكَ، فَيَحْصُلُ لَكَ نَارٌ مِنَ الْمَحَبَّةِ، فَتُضْرَمُ فِي أَحْشَائِكَ يَعِزُّ مَعَهَا الِاصْطِبَارُ، وَذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ.

فَيَا لَهُ مِنْ قَلْبٍ مُمْتَحَنٍ مَغْمُورٍ مُسْتَغْرِقٌ بِمَا ظَهَرَ لَهُ مِنْ أَشِعَّةِ أَنْوَارِ الْجَمَالِ الْأَحَدِىِّ، وَالنَّاسُ مَفْتُونُونَ مُمْتَحَنُونَ بِمَا يَفْنَى مِنَ الْمَالِ وَالصُّوَرِ وَالرِّيَاسَةِ، مُعَذَّبُونَ بِذَلِكَ قَبْلَ حُصُولِهِ، وَحَالَ حُصُولِهِ، وَبَعْدَ حُصُولِهِ، وَأَعْلَاهُمْ مَرْتَبَةً مَنْ يَكُونُ مَفْتُونًا بِالْحُورِ الْعِيْنِ، أَوْ عَامِلًا عَلَى تَمَتُّعِهِ فِي الْجَنَّةِ بِالْأَكْلِ وَالشُّرْبِ وَاللِّبَاسِ وَالنِّكَاحِ، وَهَذَا الْمُحِبُّ قَدْ تَرَقَّى فِي دَرَجَاتِ الْمَحَبَّةِ عَلَى أَهْلِ الْمَقَامَاتِ، يَنْظُرُونَ إِلَيْهِ فِي الْجَنَّةِ كَمَا يَنْظُرُونَ إِلَى الْكَوْكَبِ الدُّرِّيِّ الْغَابِرِ فِي الْأُفُقِ لِعُلُوِّ دَرَجَتِهِ وَقُرْبِ مَنْزِلَتِهِ مِنْ حَبِيبِهِ، وَمَعِيَّتِهِ مَعَهُ، فَإِنَّ الْمَرْءَ مَعَ مَنْ أَحَبَّ وَلِكُلِّ عَمَلٍ جَزَاءٌ، وَجَزَاءُ الْمَحَبَّةِ الْمَحَبَّةُ وَالْوُصُولُ وَالِاصْطِنَاعُ وَالْقُرْبُ، فَهَذَا هُوَ الَّذِي يَصْلُحُ، وَكَفَى بِذَلِكَ شَرَفًا وَفَخْرًا فِي عَاجِلِ الدُّنْيَا، فَمَا ظَنُّكَ بِمَقَامَاتِهِمُ الْعَالِيَةِ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ؟ فَكَيْفَ إِذَا رَأَيْتَهُمْ فِي مَوْقِفِ الْقِيَامَةِ، وَقَدْ أَسْمَعَهُمُ الْمُنَادِي " لِيَنْطَلِقْ كُلُّ قَوْمٍ مَعَ مَا كَانُوا يَعْبُدُونَ " فَيَبْقَوْنَ فِي مَكَانِهِمْ يَنْتَظِرُونَ مَعْبُودَهُمْ وَحَبِيبَهُمُ الَّذِي هُوَ أَحَبُّ شَيْءٍ إِلَيْهِمْ، حَتَّى يَأْتِيَهُمْ، فَيَنْظُرُونَ إِلَيْهِ وَيَتَجَلَّى لَهُمْ ضَاحِكًا.

وَالْمَقْصُودُ: أَنَّ هَذَا الْعَبْدَ لَا يَزَالُ اللَّهُ يُرَقِّيهِ طَبَقًا بَعْدَ طَبَقٍ، وَمَنْزِلًا بَعْدَ مَنْزِلٍ، إِلَى أَنْ يُوصِلَهُ إِلَيْهِ، وَيُمَكِّنَ لَهُ بَيْنَ يَدَيْهِ، أَوْ يَمُوتَ فِي الطَّرِيقِ، فَيَقَعُ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ، فَالسَّعِيدُ كُلُّ السَّعِيدِ، وَالْمُوَفَّقُ كُلُّ الْمُوَفَّقِ مَنْ لَمْ يَلْتَفِتْ عَنْ رَبِّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى يَمِينًا

<<  <  ج: ص:  >  >>