لِلصَّدَقَاتِ بِ " صَفْوَانٍ " وَهُوَ الْحَجَرُ الْأَمْلَسُ عَلَيْهِ تُرَابٌ غُبَارٌ قَدْ لَصِقَ بِهِ فَأَصَابَهُ مَطَرٌ شَدِيدٌ فَأَزَالَ مَا عَلَيْهِ مِنَ التُّرَابِ فَتَرَكَهُ صَلْدًا أَمْلَسَ لَا شَيْءَ عَلَيْهِ، وَهَذَا الْمَثَلُ فِي غَايَةِ الْمُطَابَقَةِ لِمَنْ فَهِمَهُ، فَ " الصَّفْوَانُ " وَهُوَ الْحَجَرُ، كَقَلْبِ الْمُرَائِي وَالْمَانِّ وَالْمُؤْذِي، وَالتُّرَابُ الَّذِي لَصِقَ بِهِ مَا تَعَلَّقَ بِهِ مِنْ أَثَرِ عَمَلِهِ وَصَدَقَتِهِ، وَالْوَابِلُ الْمَطَرُ الَّذِي بِهِ حَيَاةُ الْأَرْضِ، فَإِذَا صَادَفَهَا لِينَةٌ قَابِلَةٌ نَبَتَ فِيهَا الْكَلَأُ، وَإِذَا صَادَفَ الصُّخُورَ وَالْحِجَارَةَ الصُّمَّ لَمْ يُنْبِتْ فِيهَا شَيْئًا، فَجَاءَ هَذَا الْوَابِلُ إِلَى التُّرَابِ الَّذِي عَلَى الْحَجَرِ، فَصَادَفَهُ رَقِيقًا، فَأَزَالَهُ، فَأَفْضَى إِلَى حَجَرٍ غَيْرِ قَابِلٍ لِلنَّبَاتِ.
وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ قُبْحَ الْمَنِّ، وَالْأَذَى، وَالرِّيَاءِ مُسْتَقِرٌّ فِي الْعُقُولِ، فَلِذَلِكَ نَبَّهَهَا عَلَى شِبْهِهِ وَمِثَالِهِ.
وَعَكْسُ ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى {وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ وَتَثْبِيتًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصَابَهَا وَابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ فَإِنْ لَمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [البقرة: ٢٦٥] فَإِنْ كَانَتْ هَذِهِ الْجَنَّةُ - الَّتِي بِمَوْضِعٍ عَالٍ، حَيْثُ لَا تُحْجَبُ عَنْهَا الشَّمْسُ وَالرِّيَاحُ، وَقَدْ أَصَابَهَا مَطَرٌ شَدِيدٌ، فَأَخْرَجَتْ ثَمَرَتَهَا ضِعْفَيْ مَا يُخْرِجُ غَيْرُهَا - إِنْ كَانَتْ مُسْتَحْسَنَةً فِي الْعَقْلِ وَالْحِسِّ، فَكَذَلِكَ نَفَقَةُ مَنْ أَنْفَقَ مَالَهُ لِوَجْهِ اللَّهِ، لَا لِجَزَاءٍ مِنَ الْخَلْقِ، وَلَا لِشُكُورٍ، بَلْ بِثَبَاتٍ مِنْ نَفْسِهِ، وَقُوَّةٍ عَلَى الْإِنْفَاقِ، لَا يُخْرِجُ النَّفَقَةَ وَقَلْبُهُ يَرْجُفُ عَلَى خُرُوجِهَا، وَيَدَاهُ تَرْتَعِشَانِ، وَيَضْعُفُ قَلْبُهُ، وَيَخُورُ عِنْدَ الْإِنْفَاقِ، بِخِلَافِ نَفَقَةِ صَاحِبِ التَّثْبِيتِ وَالْقُوَّةِ.
وَلَمَّا كَانَ النَّاسُ فِي الْإِنْفَاقِ عَلَى هَذَيْنِ الْقِسْمَيْنِ كَانَ مَثَلُ نَفَقَةِ صَاحِبِ الْإِخْلَاصِ وَالْقُوَّةِ وَالتَّثْبِيتِ كَمَثَلِ الْوَابِلِ، وَمَثَلُ نَفَقَةِ الْآخَرِ كَمَثَلِ الطَّلِّ، وَهُوَ الْمَطَرُ الضَّعِيفُ، فَهَذَا بِحَسَبِ كَثْرَةِ الْإِنْفَاقِ وَقِلَّتِهِ، وَكَمَالِ الْإِخْلَاصِ وَالْقُوَّةِ وَالْيَقِينِ فِيهِ وَضَعْفِهِ، أَفَلَا تَرَاهُ سُبْحَانَهُ نَبَّهَ الْعُقُولَ عَلَى مَا فِيهَا مِنِ اسْتِحْسَانِ هَذَا، وَاسْتِقْبَاحِ فِعْلِ الْأَوَّلِ؟
وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: {أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ لَهُ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَأَصَابَهُ الْكِبَرُ وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفَاءُ فَأَصَابَهَا إِعْصَارٌ فِيهِ نَارٌ فَاحْتَرَقَتْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ} [البقرة: ٢٦٦] فَنَبَّهَ سُبْحَانَهُ الْعُقُولَ عَلَى
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute