مَا فِيهَا مِنْ قُبْحِ الْأَعْمَالِ السَّيِّئَةِ الَّتِي تُحْبِطُ ثَوَابَ الْحَسَنَاتِ، وَشَبَّهَهَا بِحَالِ شَيْخٍ كَبِيرٍ لَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفَاءُ، بِحَيْثُ يَخْشَى عَلَيْهِمُ الضَّيْعَةَ وَعَلَى نَفْسِهِ، وَلَهُ بُسْتَانٌ هُوَ مَادَّةُ عَيْشِهِ وَعَيْشِ ذُرِّيَّتِهِ، فِيهِ النَّخِيلُ وَالْأَعْنَابُ وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ، فَأَرْجَى وَأَفْقَرَ مَا هُوَ لَهُ وَأَسَرَّ مَا كَانَ بِهِ إِذْ أَصَابَهُ نَارٌ شَدِيدَةٌ فَأَحْرَقَتْهُ، فَنَبَّهَ الْعُقُولَ عَلَى أَنَّ قُبْحَ الْمَعَاصِي الَّتِي تُغْرِقُ الطَّاعَاتِ كَقُبْحِ هَذِهِ الْحَالِ، وَبِهَذَا فَسَّرَهَا عُمَرُ، وَابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ لِرَجُلٍ غَنِيٍّ عَمِلَ بِطَاعَةِ اللَّهِ زَمَانًا، فَبَعَثَ اللَّهُ لَهُ الشَّيْطَانَ، فَعَمِلَ بِالْمَعَاصِي حَتَّى أَغْرَقَ أَعْمَالَهُ، ذَكَرَهُ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ.
أَفَلَا تَرَاهُ نَبَّهَ الْعُقُولَ عَلَى قُبْحِ الْمَعْصِيَةِ بَعْدَ الطَّاعَةِ، وَضَرَبَ لِقُبْحِهَا هَذَا الْمَثَلَ؟ .
وَنُفَاةُ التَّعْلِيلِ وَالْأَسْبَابِ وَالْحِكَمِ، وَحَسَنِ الْأَفْعَالِ لِقُبْحِهَا هَذَا الْمَثَلَ؟ إِلَّا مَحْضُ الْمَشِيئَةِ، لَا أَنَّ بَعْضَ الْأَعْمَالِ يُبْطِلُ بَعْضًا، وَلَيْسَ فِيهَا مَا هُوَ قَبِيحٌ لِعَيْنِهِ، حَتَّى يُشَبَّهَ بِقَبِيحٍ آخَرَ، وَلَيْسَ فِيهَا مَا هُوَ مَنْشَأٌ لِمَفْسَدَةٍ أَوْ مَصْلَحَةٍ تَكُونُ سَبَبًا لَهَا، وَلَا لَهَا عِلَلٌ غَائِيَّةٌ هِيَ مُفْضِيَةٌ إِلَيْهَا، وَإِنَّمَا هِيَ مُتَعَلِّقُ الْمَشِيئَةِ وَالْإِرَادَةِ وَالْأَمْرِ وَالنَّهْيِ فَقَطْ.
وَالْفُقَهَاءُ لَا يُمْكِنُهُمُ الْبِنَاءُ عَلَى هَذِهِ الطَّرِيقَةِ الْبَتَّةَ، فَكُلُّهُمْ مُجْمِعُونَ - إِذَا تَكَلَّمُوا بِلِسَانِ الْفِقْهِ - عَلَى بُطْلَانِهَا، إِذْ يَتَكَلَّمُونَ فِي الْعِلَلِ وَالْمُنَاسَبَاتِ الدَّاعِيَةِ لِشَرْعِ الْحُكْمِ، وَيُفَرِّقُونَ بَيْنَ الْمَصَالِحِ الْخَالِصَةِ وَالرَّاجِحَةِ وَالْمَرْجُوحَةِ، وَالْمَفَاسِدِ الَّتِي هِيَ كَذَلِكَ، وَيُقَدِّمُونَ أَرْجَحَ الْمَصْلَحَتَيْنِ عَلَى مَرْجُوحِهِمَا، وَيَدْفَعُونَ أَقْوَى الْمَفْسَدَتَيْنِ بِاحْتِمَالِ أَدْنَاهُمَا، وَلَا يَتِمُّ لَهُمْ ذَلِكَ إِلَّا بِاسْتِخْرَاجِ الْحِكَمِ وَالْعِلَلِ، وَمَعْرِفَةِ الْمَصَالِحِ وَالْمَفَاسِدِ النَّاشِئَةِ مِنَ الْأَفْعَالِ، وَمَعْرِفَةِ رَبِّهَا.
وَكَذَلِكَ الْأَطِبَّاءُ لَا يَصْلُحُ لَهُمْ عِلْمُ الطِّبِّ وَعَمَلُهُ إِلَّا بِمَعْرِفَةِ قُوَى الْأَدْوِيَةِ وَالْأَمْزِجَةِ، وَالْأَغْذِيَةِ وَطَبَائِعِهَا، وَنِسْبَةِ بَعْضِهَا إِلَى بَعْضٍ، وَمِقْدَارِ تَأْثِيرِ بَعْضِهَا فِي بَعْضٍ، وَانْفِعَالِ بَعْضِهَا عَنْ بَعْضٍ، وَالْمُوَازَنَةِ بَيْنَ قُوَّةِ الدَّوَاءِ وَقُوَّةِ الْمَرَضِ وَقُوَّةِ الْمَرِيضِ، وَدَفْعِ الضِّدِّ بِضِدِّهِ، وَحِفْظِ مَا يُرِيدُونَ حِفْظَهُ بِمِثْلِهِ وَمُنَاسِبِهِ، فَصِنَاعَةُ الطِّبِّ وَعَمَلُهُ مَبْنِيٌّ عَلَى مَعْرِفَةِ الْأَسْبَابِ وَالْعِلَلِ، وَالْقُوَى وَالطَّبَائِعِ وَالْخَوَاصِّ، فَلَوْ نَفَوْا ذَلِكَ وَأَبْطَلُوهُ، وَأَحَالُوا عَلَى مَحْضِ الْمَشِيئَةِ وَصَرْفِ الْإِرَادَةِ الْمُجَرَّدَةِ عَنِ الْأَسْبَابِ وَالْعِلَلِ، وَجَعَلُوا حَقِيقَةَ النَّارِ مُسَاوِيَةً لِحَقِيقَةِ الْمَاءِ، وَحَقِيقَةَ الدَّوَاءِ مُسَاوِيَةً لِحَقِيقَةِ الْغِذَاءِ لَيْسَ فِي أَحَدِهِمَا خَاصِّيَّةٌ وَلَا قُوَّةٌ يَتَمَيَّزُ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute