، وَهُوَ التَّوْبَةُ، بَلْ هِيَ أَوْلَى بِالْإِمْكَانِ وَالتَّصَوُّرِ مِنَ الْإِصْرَارِ، وَهَذَا وَاضِحٌ.
وَالْفَرْقُ بَيْنَ هَذَا وَبَيْنَ الْمُعَايِنِ، وَمَنْ وَرَدَ الْقِيَامَةَ أَنَّ التَّكْلِيفَ قَدِ انْقَطَعَ بِالْمُعَايَنَةِ وَوُرُودِ الْقِيَامَةِ، وَالتَّوْبَةُ إِنَّمَا تَكُونُ فِي زَمَنِ التَّكْلِيفِ، وَهَذَا الْعَاجِزُ لَمْ يَنْقَطِعْ عَنْهُ التَّكْلِيفُ، فَالْأَوَامِرُ وَالنَّوَاهِي لَازِمَةٌ لَهُ، وَالْكَفُّ مُتَصَوَّرٌ مِنْهُ عَنِ التَّمَنِّي وَالْوِدَادِ، وَالْأَسَفِ عَلَى فَوْتِهِ، وَتَبْدِيلُ ذَلِكَ بِالنَّدَمِ وَالْحُزْنِ عَلَى فِعْلِهِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
فَصْلٌ وَمِنْ أَحْكَامِهَا أَنَّ مَنْ تَوَغَّلَ فِي ذَنْبٍ، وَعَزَمَ عَلَى التَّوْبَةِ مِنْهُ، وَلَا يُمْكِنُهُ التَّوْبَةُ مِنْهُ إِلَّا بِارْتِكَابِ بَعْضِهِ، كَمَنْ أَوْلَجَ فِي فَرْجٍ حَرَامٍ، ثُمَّ عَزَمَ عَلَى التَّوْبَةِ قَبْلَ النَّزْعِ الَّذِي هُوَ جُزْءُ الْوَطْءِ، وَكَمَنَ تَوَسَّطَ أَرْضًا مَغْصُوبَةً، ثُمَّ عَزَمَ عَلَى التَّوْبَةِ، وَلَا يُمْكِنُهُ إِلَّا بِالْخُرُوجِ، الَّذِي هُوَ مَشْيٌ فِيهَا وَتَصَرُّفٌ، فَكَيْفَ يَتُوبُ مِنَ الْحَرَامِ بِحَرَامٍ مِثْلِهِ؟ وَهَلْ تُعْقَلُ التَّوْبَةُ مِنَ الْحَرَامِ بِحَرَامٍ؟ .
فَهَذَا مِمَّا أَشْكَلَ عَلَى بَعْضِ النَّاسِ، حَتَّى دَعَاهُ ذَلِكَ إِلَى أَنْ قَالَ بِسُقُوطِ التَّكْلِيفِ عَنْهُ فِي هَذَا الْفِعْلِ الَّذِي يَتَخَلَّصُ بِهِ مِنَ الْحَرَامِ.
قَالَ: لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ مَأْمُورًا بِهِ وَهُوَ حَرَامٌ، وَقَدْ تَعَيَّنَ فِي حَقِّهِ طَرِيقًا لِلْخَلَاصِ مِنَ الْحَرَامِ، لَا يُمْكِنُهُ التَّخَلُّصُ بِدُونِهِ، فَلَا حُكْمَ فِي هَذَا الْفِعْلِ الْبَتَّةَ، وَهُوَ بِمَنْزِلَةِ الْعَفْوِ الَّذِي لَا يَدْخُلُ تَحْتَ التَّكْلِيفِ.
وَقَالَتْ طَائِفَةٌ: بَلْ هُوَ حَرَامٌ وَاجِبٌ، فَهُوَ ذُو وَجْهَيْنِ، مَأْمُورٌ بِهِ مِنْ أَحَدِهِمَا، مَنْهِيٌّ عَنْهُ مِنَ الْآخَرِ، فَيُؤْمَرُ بِهِ مِنْ حَيْثُ تَعَيُّنُهُ طَرِيقًا لِلْخَلَاصِ مِنَ الْحَرَامِ، وَهُوَ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ وَاجِبٌ، وَيُنْهَى عَنْهُ مِنْ جِهَةِ كَوْنِهِ مُبَاشَرَةً لِلْحَرَامِ، وَهُوَ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ مُحَرَّمٌ، فَيَسْتَحِقُّ عَلَيْهِ الثَّوَابُ وَالْعِقَابُ.
قَالُوا: وَلَا يَمْتَنِعُ كَوْنُ الْفِعْلِ فِي الشَّرْعِ ذَا وَجْهَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ، كَالِاشْتِغَالِ عَنِ الْحَرَامِ بِمُبَاحٍ، فَإِنَّ الْمُبَاحَ إِذَا نَظَرْنَا إِلَى ذَاتِهِ - مَعَ قَطْعِ النَّظَرِ عَنْ تَرْكِ الْحَرَامِ - قَضَيْنَا بِإِبَاحَتِهِ، وَإِذَا اعْتَبَرْنَاهُ مِنْ جِهَةِ كَوْنِهِ تَارِكًا لِلْحَرَامِ كَانَ وَاجِبًا.
نَعَمْ، غَايَتُهُ أَنَّهُ لَا يَتَعَيَّنُ مُبَاحٌ دُونَ مُبَاحٍ، فَيَكُونُ وَاجِبًا مُخَيَّرًا.
قَالُوا: وَكَذَلِكَ الصَّلَاةُ فِي الدَّارِ الْمَغْصُوبَةِ، هِيَ حَرَامٌ، وَهِيَ وَاجِبَةٌ، وَسَتْرُ الْعَوْرَةِ بِثَوْبِ الْحَرِيرِ كَذَلِكَ حَرَامٌ وَاجِبٌ، مِنْ وَجْهَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute