فِي حَقِّ هَذَا ضَرُورِيٌّ، لَا عَزْمٌ غَيْرُ مَقْدُورٍ، بَلْ هُوَ بِمَنْزِلَةِ تَرْكِ الطَّيَرَانِ إِلَى السَّمَاءِ، وَنَقْلِ الْجِبَالِ وَغَيْرِ ذَلِكَ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي - وَهُوَ الصَّوَابُ - أَنَّ تَوْبَتَهُ صَحِيحَةٌ مُمْكِنَةٌ، بَلْ وَاقِعَةٌ، فَإِنَّ أَرْكَانَ التَّوْبَةِ مُجْتَمِعَةٌ فِيهِ، وَالْمَقْدُورُ لَهُ مِنْهَا النَّدَمُ، وَفِي الْمُسْنَدِ مَرْفُوعًا «النَّدَمُ تَوْبَةٌ،» فَإِذَا تَحَقَّقَ نَدَمُهُ عَلَى الذَّنْبِ وَلَوْمُهُ نَفْسَهُ عَلَيْهِ، فَهَذِهِ تَوْبَةٌ، وَكَيْفَ يَصِحُّ أَنْ تُسْلَبَ التَّوْبَةُ عَنْهُ، مَعَ شِدَّةِ نَدَمِهِ عَلَى الذَّنْبِ، وَلَوْمِهِ نَفْسَهُ عَلَيْهِ؟ وَلَا سِيَّمَا مَا يَتْبَعُ ذَلِكَ مِنْ بُكَائِهِ وَحُزْنِهِ وَخَوْفِهِ، وَعَزْمِهِ الْجَازِمِ، وَنِيَّتِهِ أَنَّهُ لَوْ كَانَ صَحِيحًا وَالْفِعْلُ مَقْدُورًا لَهُ لَمَا فَعَلَهُ.
وَإِذَا كَانَ الشَّارِعُ قَدْ نَزَّلَ الْعَاجِزَ عَنِ الطَّاعَةِ مَنْزِلَةَ الْفَاعِلِ لَهَا، إِذَا صَحَّتْ نِيَّتُهُ، كَقَوْلِهِ: فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ «إِذَا مَرِضَ الْعَبْدُ أَوْ سَافَرَ كُتِبَ لَهُ مَا كَانَ يَعْمَلُ صَحِيحًا مُقِيمًا» وَفِي الصَّحِيحِ أَيْضًا عَنْهُ: «إِنَّ بِالْمَدِينَةِ أَقْوَامًا مَا سِرْتُمْ مَسِيرًا، وَلَا قَطَعْتُمْ وَادِيًا إِلَّا كَانُوا مَعَكُمْ، قَالُوا: وَهُمْ بِالْمَدِينَةِ؟ قَالَ: وَهُمْ بِالْمَدِينَةِ، حَبَسَهُمُ الْعُذْرُ» وَلَهُ نَظَائِرُ فِي الْحَدِيثِ، فَتَنْزِيلُ الْعَاجِزِ عَنِ الْمَعْصِيَةِ، التَّارِكِ لَهَا قَهْرًا - مَعَ نِيَّتِهِ تَرْكَهَا اخْتِيَارًا لَوْ أَمْكَنَهُ - مَنْزِلَةَ التَّارِكِ الْمُخْتَارِ أَوْلَى.
يُوَضِّحُهُ أَنَّ مَفْسَدَةَ الذَّنْبِ الَّتِي يَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا الْوَعِيدُ تَنْشَأُ مِنَ الْعَزْمِ عَلَيْهِ تَارَةً وَمِنْ فِعْلِهِ تَارَةً، وَمَنْشَأُ الْمَفْسَدَةِ مَعْدُومٌ فِي حَقِّ هَذَا الْعَاجِزِ فِعْلًا وَعَزْمًا، وَالْعُقُوبَةُ تَابِعَةٌ لِلْمَفْسَدَةِ.
وَأَيْضًا فَإِنَّ هَذَا تَعَذَّرَ مِنْهُ الْفِعْلُ مَا تَعَذَّرَ مِنْهُ التَّمَنِّي وَالْوِدَادُ، فَإِذَا كَانَ يَتَمَنَّى وَيَوَدُّ لَوْ وَاقَعَ الذَّنْبَ، وَمِنْ نِيَّتِهِ أَنَّهُ لَوْ كَانَ سَلِيمًا لَبَاشَرَهُ، فَتَوْبَتُهُ بِالْإِقْلَاعِ عَنْ هَذَا الْوِدَادِ وَالتَّمَنِّي، وَالْحُزْنِ عَلَى فَوْتِهِ، فَإِنَّ الْإِصْرَارَ مُتَصَوَّرٌ فِي حَقِّهِ قَطْعًا، فَيُتَصَوَّرُ فِي حَقِّهِ ضِدُّهُ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute