قَالُوا: وَكَذَلِكَ اللُّقَطَةُ إِذَا لَمْ يَجِدْ رَبَّهَا بَعْدَ تَعْرِيفِهَا وَلَمْ يُرِدْ أَنْ يَتَمَلَّكَهَا، تَصَدَّقَ بِهَا عَنْهُ، فَإِنْ ظَهَرَ مَالِكُهَا خَيَّرَهُ بَيْنَ الْأَجْرِ وَالضَّمَانِ.
قَالُوا: وَهَذَا لِأَنَّ الْمَجْهُولَ فِي الشَّرْعِ كَالْمَعْدُومِ، فَإِذَا جُهِلَ الْمَالِكُ صَارَ بِمَنْزِلَةِ الْمَعْدُومِ، وَهَذَا مَالٌ لَمْ يُعْلَمْ لَهُ مَالِكٌ مُعَيَّنٌ، وَلَا سَبِيلَ إِلَى تَعْطِيلِ الِانْتِفَاعِ بِهِ لِمَا فِيهِ مِنَ الْمَفْسَدَةِ وَالضَّرَرِ بِمَالِكِهِ وَبِالْفُقَرَاءِ وَبِمَنْ هُوَ فِي يَدِهِ، أَمَّا الْمَالِكُ فَلِعَدَمِ وُصُولِ نَفْعِهِ إِلَيْهِ وَكَذَلِكَ الْفُقَرَاءُ، وَأَمَّا مَنْ هُوَ فِي يَدِهِ فَلِعَدَمِ تَمَكُّنِهِ مِنَ الْخَلَاصِ مِنْ إِثْمِهِ فَيَغْرَمُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنْ غَيْرِ انْتِفَاعٍ بِهِ، وَمِثْلُ هَذَا لَا تُبِيحُهُ شَرِيعَةٌ فَضْلًا عَنْ أَنْ تَأْمُرَ بِهِ وَتُوجِبَهُ، فَإِنَّ الشَّرَائِعَ مَبْنَاهَا عَلَى الْمَصَالِحِ بِحَسَبِ الْإِمْكَانِ وَتَكْمِيلِهَا، وَتَعْطِيلَ الْمَفَاسِدِ بِحَسَبِ الْإِمْكَانِ وَتَقْلِيلِهَا، وَتَعْطِيلُ هَذَا الْمَالِ وَوَقْفُهُ وَمَنْعُهُ عَنِ الِانْتِفَاعِ بِهِ مَفْسَدَةٌ مَحْضَةٌ لَا مَصْلَحَةَ فِيهَا فَلَا يُصَارُ إِلَيْهِ.
قَالُوا: وَقَدِ اسْتَقَرَّتْ قَوَاعِدُ الشَّرْعِ عَلَى أَنَّ الْإِذْنَ الْعُرْفِيَّ كَاللَّفْظِيِّ، فَمَنْ رَأَى بِمَالِ غَيْرِهِ مَوْتًا وَهُوَ مِمَّا يُمْكِنُ اسْتِدْرَاكُهُ بِذَبْحِهِ فَذَبَحَهُ إِحْسَانًا إِلَى مَالِكِهِ وَنُصْحًا لَهُ فَهُوَ مَأْذُونٌ لَهُ فِيهِ عُرْفًا وَإِنْ كَانَ الْمَالِكُ سَفِيهًا، فَإِذَا ذَبَحَهُ لِمَصْلَحَةِ مَالِكِهِ لَمْ يَضْمَنْهُ; لِأَنَّهُ مُحْسِنٌ وَ {مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ} [التوبة: ٩١] وَكَذَلِكَ إِذَا غَصَبَهُ ظَالِمٌ، أَوْ خَافَ عَلَيْهِ مِنْهُ، فَصَالَحَهُ عَلَيْهِ بِبَعْضِهِ لِيَسْلَمَ الْبَاقِي لِمَالِكِهِ وَهُوَ غَائِبٌ عَنْهُ، أَوْ رَآهُ آيِلًا إِلَى تَلَفٍ مَحْضٍ فَبَاعَهُ وَحَفِظَ ثَمَنَهُ لَهُ وَنَحْوَ ذَلِكَ، فَإِنَّ هَذَا كُلَّهُ مَأْذُونٌ فِيهِ عُرْفًا مِنَ الْمَالِكِ، وَقَدْ بَاعَ عُرْوَةُ بْنُ الْجَعْدِ الْبَارِقِيُّ وَكَيْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِلْكَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِغَيْرِ إِذْنِهِ لَفْظًا وَاشْتَرَى لَهُ بِبَعْضِ ثَمَنِهِ مِثْلَ مَا وَكَّلَهُ فِي شِرَائِهِ بِذَلِكَ الثَّمَنِ كُلِّهِ، ثُمَّ جَاءَهُ بِالثَّمَنِ وَبِالْمُشْتَرَى فَقَبِلَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَدَعَا لَهُ.
وَأُشْكِلَ هَذَا عَلَى بَعْضِ الْفُقَهَاءِ. وَبَنَاهُ عَلَى تَصَرُّفِ الْفُضُولِيِّ، فَأُورِدَ عَلَيْهِ أَنَّ الْفُضُولِيَّ لَا يَقْبِضُ وَلَا يُقْبِضُ، وَهَذَا قَبَضَ وَأَقْبَضَ.
وَبَنَاهُ آخَرُونَ عَلَى أَنَّهُ كَانَ وَكِيلًا مُطْلَقًا فِي كُلِّ شَيْءٍ، وَهَذَا أَفْسَدُ مِنَ الْأَوَّلِ فَإِنَّهُ لَا يُعْرَفُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ وَكَّلَ أَحَدًا وَكَالَةً مُطْلَقَةً الْبَتَّةَ، وَلَا نَقَلَ ذَلِكَ عَنْهُ مُسْلِمٌ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute