وَالصَّوَابُ أَنَّهُ مَبْنِيٌّ عَلَى هَذِهِ الْقَاعِدَةِ: أَنَّ الْإِذْنَ الْعُرْفِيَّ كَالْإِذْنِ اللَّفْظِيِّ، وَمَنْ رَضِيَ بِالْمُشْتَرِي وَخَرَجَ ثَمَنُهُ عَنْ مِلْكِهِ. فَهُوَ بِأَنْ يَرْضَى بِهِ وَيُحَصِّلَ لَهُ الثَّمَنَ أَشَدُّ رِضًى.
وَنَظِيرُ هَذَا مَرِيضٌ عَجَزَ أَصْحَابُهُ فِي السَّفَرِ أَوِ الْحَضَرِ عَنِ اسْتِئْذَانِهِ فِي إِخْرَاجِ شَيْءٍ مِنْ مَالِهِ فِي عِلَاجِهِ وَخِيفَ عَلَيْهِ، فَإِنَّهُمْ يُخْرِجُونَ مِنْ مَالِهِ مَا هُوَ مُضْطَرٌّ إِلَيْهِ بِدُونِ اسْتِئْذَانِهِ بِنَاءً عَلَى الْعُرْفِ فِي ذَلِكَ، وَنَظَائِرُ ذَلِكَ مِمَّا مَصْلَحَتُهُ وَحُسْنُهُ مُسْتَقِرٌّ فِي فِطَرِ الْخَلْقِ وَلَا تَأْتِي شَرِيعَةٌ بِتَحْرِيمِهِ كَثِيرٌ.
وَإِذَا ثَبَتَ ذَلِكَ، فَمِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّ صَاحِبَ هَذَا الْمَالِ الَّذِي قَدْ حِيلَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ أَشَدُّ شَيْءٍ رِضًى بِوُصُولِ نَفْعِهِ الْأُخْرَوِيِّ إِلَيْهِ، وَهُوَ أَكْرَهُ شَيْءٍ لِتَعْطِيلِهِ أَوْ إِبْقَائِهِ مَقْطُوعًا عَنِ الِانْتِفَاعِ بِهِ دُنْيَا وَأُخْرَى، وَإِذَا وَصَلَ إِلَيْهِ ثَوَابُ مَالِهِ سَرَّهُ ذَلِكَ أَعْظَمَ مِنْ سُرُورِهِ بِوُصُولِهِ إِلَيْهِ فِي الدُّنْيَا، فَكَيْفَ يُقَالُ: مَصْلَحَةُ تَعْطِيلِ هَذَا الْمَالِ عَنِ انْتِفَاعِ الْمَيِّتِ وَالْمَسَاكِينِ بِهِ وَمَنْ هُوَ بِيَدِهِ أَرْجَحُ مِنْ مَصْلَحَةِ إِنْفَاقِهِ شَرْعًا؟ بَلْ أَيُّ مَصْلَحَةٍ دِينِيَّةٍ أَوْ دُنْيَوِيَّةٍ فِي هَذَا التَّعْطِيلِ؟ وَهَلْ هُوَ إِلَّا مَحْضُ الْمَفْسَدَةِ؟ .
وَلَقَدْ سُئِلَ شَيْخُنَا أَبُو الْعَبَّاسِ ابْنُ تَيْمِيَّةَ قَدَّسَ اللَّهُ رُوحَهُ، سَأَلَهُ شَيْخٌ، فَقَالَ: هَرَبْتُ مِنْ أُسْتَاذِي وَأَنَا صَغِيرٌ إِلَى الْآنِ، لَمْ أَطَّلِعْ لَهُ عَلَى خَبَرٍ، وَأَنَا مَمْلُوكٌ وَقَدْ خِفْتُ مِنَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَأُرِيدُ بَرَاءَةَ ذِمَّتِي مِنْ حَقِّ أُسْتَاذِي مِنْ رَقَبَتِي، وَقَدْ سَأَلْتُ جَمَاعَةً مِنَ الْمُفْتِينَ، فَقَالُوا لِي: اذْهَبْ فَاقْعُدْ فِي الْمُسْتَوْدَعِ فَضَحِكَ شَيْخُنَا وَقَالَ: تَصَدَّقْ بِقِيمَتِكَ أَعْلَى مَا كَانَتْ عَنْ سَيِّدِكَ، وَلَا حَاجَةَ لَكَ بِالْمُسْتَوْدَعِ تَقْعُدُ فِيهِ عَبَثًا فِي غَيْرِ مُصْلِحَةٍ وَإِضْرَارًا بِكَ وَتَعْطِيلًا عَنْ مَصَالِحِكَ، وَلَا مَصْلَحَةَ لِأُسْتَاذِكَ فِي هَذَا، وَلَا لَكَ وَلَا لِلْمُسْلِمِينَ، أَوْ نَحْوَ هَذَا مِنَ الْكَلَامِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
فَصْلٌ
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: إِذَا عَاوَضَ غَيْرَهُ مُعَاوَضَةً مُحَرَّمَةً، وَقَبَضَ الْعِوَضَ كَالزَّانِيَةِ وَالْمُغَنِّي وَبَائِعِ الْخَمْرِ وَشَاهِدِ الزُّورِ وَنَحْوِهِمْ ثُمَّ تَابَ وَالْعِوَضُ بِيَدِهِ.
فَقَالَتْ طَائِفَةٌ: يَرُدُّهُ إِلَى مَالِكِهِ إِذْ هُوَ عَيْنُ مَالِهِ، وَلَمْ يَقْبِضْهُ بِإِذْنِ الشَّارِعِ وَلَا حَصَلَ لِرَبِّهِ فِي مُقَابَلَتِهِ نَفْعٌ مُبَاحٌ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute