وَقَالَتْ طَائِفَةٌ: بَلْ تَوْبَتُهُ بِالتَّصَدُّقِ بِهِ، وَلَا يَدْفَعُهُ إِلَى مَنْ أَخَذَهُ مِنْهُ، وَهُوَ اخْتِيَارُ شَيْخِ الْإِسْلَامِ ابْنِ تَيْمِيَّةَ، وَهُوَ أَصْوَبُ الْقَوْلَيْنِ، فَإِنَّ قَابِضَهُ إِنَّمَا قَبَضَهُ بِبَذْلِ مَالِكِهِ لَهُ وَرِضَاهُ بِبَذْلِهِ، وَقَدِ اسْتَوْفَى عِوَضَهُ الْمُحَرَّمَ، فَكَيْفَ يَجْمَعُ لَهُ بَيْنَ الْعِوَضِ وَالْمُعَوَّضِ؟ وَكَيْفَ يَرُدُّ عَلَيْهِ مَالًا قَدِ اسْتَعَانَ بِهِ عَلَى مَعَاصِي اللَّهِ، وَرَضِيَ بِإِخْرَاجِهِ فِيمَا يَسْتَعِينُ بِهِ عَلَيْهَا ثَانِيًا وَثَالِثًا؟ وَهَلْ هَذَا إِلَّا مَحْضُ إِعَانَتِهِ عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ؟ وَهَلْ يُنَاسِبُ هَذَا مَحَاسِنَ الشَّرْعِ أَنْ يُقْضَى لِلزَّانِي بِكُلِّ مَا دَفَعَهُ إِلَى مَنْ زَنَى بِهَا، وَيُؤْخَذَ مِنْهَا ذَلِكَ طَوْعًا أَوْ كَرْهًا فَيُعْطَاهُ وَقَدْ نَالَ عِوَضَهُ؟ .
وَهَبْ أَنَّ هَذَا الْمَالَ لَمْ يَمْلِكْهُ الْآخِذُ، فَمِلْكُ صَاحِبِهِ قَدْ زَالَ عَنْهُ بِإِعْطَائِهِ لِمَنْ أَخَذَهُ، وَقَدْ سَلَّمَ لَهُ مَا فِي قُبَالَتِهِ مِنَ النَّفْعِ، فَكَيْفَ يُقَالُ: مِلْكُهُ بَاقٍ عَلَيْهِ وَيَجِبُ رَدُّهُ إِلَيْهِ؟ وَهَذَا بِخِلَافِ أَمْرِهِ بِالصَّدَقَةِ بِهِ فَإِنَّهُ قَدْ أَخَذَهُ مِنْ وَجْهٍ خَبِيثٍ بِرِضَى صَاحِبِهِ وَبَذْلِهِ لَهُ بِذَلِكَ، وَصَاحِبُهُ قَدْ رَضِيَ بِإِخْرَاجِهِ عَنْ مِلْكِهِ بِذَلِكَ، وَأَنْ لَا يَعُودَ إِلَيْهِ فَكَانَ أَحَقَّ الْوُجُوهِ بِهِ صَرْفُهُ فِي الْمَصْلَحَةِ الَّتِي يَنْتَفِعُ بِهَا مَنْ قَبَضَهُ وَيُخَفَّفُ عَنْهُ الْإِثْمُ وَلَا يُقَوَّى الْفَاجِرُ بِهِ وَيُعَانُ، وَيُجْمَعُ لَهُ بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ.
وَهَكَذَا تَوْبَةُ مَنِ اخْتَلَطَ مَالُهُ الْحَلَالُ بِالْحَرَامِ وَتَعَذَّرَ عَلَيْهِ تَمْيِيزُهُ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِقَدْرِ الْحَرَامِ وَيُطَيِّبَ بَاقِي مَالِهِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
فَصْلٌ
إِذَا غَصَبَ مَالًا وَمَاتَ رَبُّهُ وَتَعَذَّرَ رَدُّهُ عَلَيْهِ تَعَيَّنَ عَلَيْهِ رَدُّهُ إِلَى وَارِثِهِ، فَإِنْ مَاتَ الْوَارِثُ رَدَّهُ إِلَى وَارِثِهِ وَهَلُمَّ جَرَّا، فَإِنْ لَمْ يَرُدَّهُ إِلَى رَبِّهِ وَلَا إِلَى أَحَدِ وَرَثَتِهِ فَهَلْ تَكُونُ الْمُطَالَبَةُ بِهِ فِي الْآخِرَةِ لِلْمَوْرُوثِ إِذْ هُوَ رَبُّهُ الْأَصْلِيُّ وَقَدْ غَصَبَهُ عَلَيْهِ أَوْ لِلْوَارِثِ الْأَخِيرِ إِذِ الْحَقُّ قَدِ انْتَقَلَ إِلَيْهِ؟ .
فِيهِ قَوْلَانِ لِلْفُقَهَاءِ، وَهُمْ وَجْهَانِ فِي مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ.
وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُقَالَ: الْمُطَالَبَةُ لِلْمَوْرُوثِ وَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْوَرَثَةِ، إِذْ كُلٌّ مِنْهُمْ قَدْ كَانَ يَسْتَحِقُّهُ وَيَجِبُ عَلَيْهِ الدَّفْعُ إِلَيْهِ فَقَدْ ظَلَمَهُ بِتَرْكِ إِعْطَائِهِ مَا وَجَبَ عَلَيْهِ دَفْعُهُ إِلَيْهِ، فَيَتَوَجَّهُ عَلَيْهِ الْمُطَالَبَةُ فِي الْآخِرَةِ لَهُ.
فَإِنْ قِيلَ: فَكَيْفَ يَتَخَلَّصُ بِالتَّوْبَةِ مِنْ حُقُوقِ هَؤُلَاءِ.
قِيلَ: طَرِيقُ التَّوْبَةِ أَنْ يَتَصَدَّقَ عَنْهُمْ بِمَالٍ تَجْرِي مَنَافِعُ ثَوَابِهِ عَلَيْهِمْ بِقَدْرِ مَا فَاتَ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ مِنْ مَنْفَعَةِ ذَلِكَ الْمَالِ لَوْ صَارَ إِلَيْهِ مُتَحَرِّيًا لِلْمُمْكِنِ مِنْ ذَلِكَ، وَهَكَذَا لَوْ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute