للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

يُقَالُ: وَهُوَ عُبُودِيَّةٌ، وَتَعَلُّقٌ بِاللَّهِ مِنْ حَيْثُ اسْمُهُ الْمُحْسِنُ الْبَرُّ فَذَلِكَ التَّعَلُّقُ وَالتَّعَبُّدُ بِهَذَا الِاسْمِ وَالْمَعْرِفَةِ بِاللَّهِ هُوَ الَّذِي أَوْجَبَ لِلْعَبْدِ الرَّجَاءَ، مِنْ حَيْثُ يَدْرِي وَمِنْ حَيْثُ لَا يَدْرِي. فَقُوَّةُ الرَّجَاءِ عَلَى حَسَبِ قُوَّةِ الْمَعْرِفَةِ بِاللَّهِ وَأَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ، وَغَلَبَةِ رَحْمَتِهِ غَضَبَهُ. وَلَوْلَا رُوحُ الرَّجَاءِ لَعُطِّلَتْ عُبُودِيَّةُ الْقَلْبِ وَالْجَوَارِحِ. وَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ، وَبَيْعٌ، وَصَلَوَاتٌ، وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا. بَلْ لَوْلَا رُوحُ الرَّجَاءِ لَمَا تَحَرَّكَتِ الْجَوَارِحُ بِالطَّاعَةِ. وَلَوْلَا رِيحُهُ الطَّيِّبَةُ لَمَا جَرَتْ سُفُنُ الْأَعْمَالِ فِي بَحْرِ الْإِرَادَاتِ. وَلِي مِنْ أَبْيَاتٍ:

لَوْلَا التَّعَلُّقُ بِالرَّجَاءِ تَقَطَّعَتْ ... نَفْسُ الْمُحِبِّ تَحَسُّرًا وَتَمَزُّقَا

وَكَذَاكَ لَوْلَا بَرْدُهُ بِحَرَارَةِ الْ ... أَكْبَادِ ذَابَتْ بِالْحِجَابِ تَحَرُّقَا

أَيَكُونُ قَطُّ حَلِيفُ حُبٍّ لَا يُرَى ... بِرَجَائِهِ لِحَبِيبِهِ مُتَعَلِّقًا؟ !

أَمْ كُلَّمَا قَوِيَتْ مَحَبَّتُهُ لَهُ ... قَوِيَ الرَّجَاءُ فَزَادَ فِيهِ تَشَوُّقَا

لَوْلَا الرَّجَا يَحْدُو الْمَطِيَّ لَمَا سَرَتْ ... بِحُمُولِهَا لِدِيَارِهِمْ تَرْجُو اللِّقَا

وَعَلَى حَسَبِ الْمَحَبَّةِ وَقُوَّتِهَا يَكُونُ الرَّجَاءُ. فَكُلُّ مُحِبٍّ رَاجٍ خَائِفٌ بِالضَّرُورَةِ فَهُوَ أَرْجَى مَا يَكُونُ لِحَبِيبِهِ، أَحَبُّ مَا يَكُونُ إِلَيْهِ. وَكَذَلِكَ خَوْفُهُ. فَإِنَّهُ يَخَافُ سُقُوطَهُ مِنْ عَيْنَيْهِ. وَطَرْدَ مَحْبُوبِهِ لَهُ وَإِبْعَادَهُ. وَاحْتِجَابَهُ عَنْهُ. فَخَوْفُهُ أَشَدُّ خَوْفٍ. وَرَجَاؤُهُ ذَاتِيٌّ لِلْمَحَبَّةِ. فَإِنَّهُ يَرْجُوهُ قَبْلَ لِقَائِهِ وَالْوُصُولِ إِلَيْهِ. فَإِذَا لَقِيَهُ وَوَصَلَ إِلَيْهِ اشْتَدَّ الرَّجَاءُ لَهُ، لِمَا يَحْصُلُ لَهُ بِهِ مِنْ حَيَاةِ رُوحِهِ، وَنَعِيمِ قَلْبِهِ مِنْ أَلْطَافِ مَحْبُوبِهِ، وَبِرِّهِ وَإِقْبَالِهِ عَلَيْهِ، وَنَظَرِهِ إِلَيْهِ بِعَيْنِ الرِّضَا، وَتَأْهِيلِهِ فِي مَحَبَّتِهِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا لَا حَيَاةَ لِلْمُحِبِّ، وَلَا نَعِيمَ وَلَا فَوْزَ إِلَّا بِوُصُولِهِ إِلَيْهِ مِنْ مَحْبُوبِهِ. فَرَجَاؤُهُ أَعْظَمُ رَجَاءٍ، وَأَجَلُّهُ وَأَتَمُّهُ.

فَتَأَمَّلْ هَذَا الْمَوْضِعَ حَقَّ التَّأَمُّلِ يُطْلِعْكَ عَلَى أَسْرَارٍ عَظِيمَةٍ مِنْ أَسْرَارِ الْعُبُودِيَّةِ وَالْمَحَبَّةِ. فَكُلُّ مَحَبَّةٍ فَهِيَ مَصْحُوبَةٌ بِالْخَوْفِ وَالرَّجَاءِ. وَعَلَى قَدْرِ تَمَكُّنِهَا مِنْ قَلْبِ الْمُحِبِّ يَشْتَدُّ خَوْفُهُ وَرَجَاؤُهُ، لَكِنَّ خَوْفَ الْمُحِبِّ لَا يَصْحَبُهُ وَحْشَةٌ. بِخِلَافِ خَوْفِ الْمُسِيءِ، وَرَجَاءِ الْمُحِبِّ لَا يَصْحَبُهُ عِلَّةٌ، بِخِلَافِ رَجَاءِ الْأَجِيرِ. وَأَيْنَ رَجَاءُ الْمُحِبِّ مِنْ رَجَاءِ الْأَجِيرِ؟ ! وَبَيْنَهُمَا كَمَا بَيْنَ حَالَيْهِمَا.

وَبِالْجُمْلَةِ: فَالرَّجَاءُ ضَرُورِيٌّ لِلْمُرِيدِ السَّالِكِ، وَالْعَارِفُ لَوْ فَارَقَهُ لَحْظَةً لَتَلِفَ أَوْ كَادَ. فَإِنَّهُ دَائِرٌ بَيْنَ ذَنْبٍ يَرْجُو غُفْرَانَهُ، وَعَيْبٍ يَرْجُو إِصْلَاحَهُ، وَعَمَلٍ صَالِحٍ يَرْجُو قَبُولَهُ، وَاسْتِقَامَةٍ يَرْجُو حُصُولَهَا وَدَوَامَهَا، وَقُرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَمَنْزِلَةٍ عِنْدَهُ يَرْجُو وُصُولَهُ إِلَيْهَا. وَلَا يَنْفَكُّ أَحَدٌ مِنَ السَّالِكِينَ عَنْ هَذِهِ الْأُمُورِ أَوْ بَعْضِهَا. فَكَيْفَ يَكُونُ الرَّجَاءُ مِنْ أَضْعَفِ مَنَازِلِهِ. وَهَذَا حَالُهُ؟

<<  <  ج: ص:  >  >>