وَأَمَّا حَدِيثُ الْمُعَارَضَةِ وَالِاعْتِرَاضِ فَبَاطِلٌ. فَإِنَّ الرَّاجِيَ لَيْسَ مُعَارِضًا. وَلَا مُعْتَرِضًا، بَلْ رَاغِبًا رَاهِبًا. مُؤَمِّلًا لِفَضْلِ رَبِّهِ. حَسَنَ الظَّنِّ بِهِ، مُتَعَلِّقَ الْأَمَلِ بِبِرِّهِ وَجُودِهِ، عَابِدًا لَهُ بِأَسْمَائِهِ: الْمُحْسِنِ، الْبَرِّ، الْمُعْطِي، الْحَلِيمِ، الْغَفُورِ، الْجَوَادِ، الْوَهَّابِ، الرَّزَاقِ. وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يُحِبُّ مِنْ عَبْدِهِ أَنْ يَرْجُوَهُ. وَلِذَلِكَ كَانَ عِنْدَ رَجَاءِ الْعَبْدِ لَهُ وَظَنِّهِ بِهِ.
وَالرَّجَاءُ مِنَ الْأَسْبَابِ الَّتِي يَنَالُ بِهَا الْعَبْدُ مَا يَرْجُوهُ مِنْ رَبِّهِ، بَلْ هُوَ مِنْ أَقْوَى الْأَسْبَابِ. وَلَوْ تَضَمَّنَ مُعَارَضَةً وَاعْتِرَاضًا لَكَانَ ذَلِكَ فِي الدُّعَاءِ وَالْمَسْأَلَةِ أَوْلَى فَكَانَ دُعَاءُ الْعَبْدِ رَبَّهُ وَسُؤَالُهُ - أَنْ يَهْدِيَهُ وَيُوَفِّقَهُ وَيُسَدِّدَهُ، وَيُعِينَهُ عَلَى طَاعَتِهِ وَيُجَنِّبَهُ مَعْصِيَتَهُ، وَيَغْفِرَ ذُنُوبَهُ، وَيَدْخُلَهُ جَنَّتَهُ، وَيُنْجِيَهُ مِنَ النَّارِ - مُعَارَضَةً وَاعْتِرَاضًا؛ لِأَنَّ الدَّاعِيَ رَاجٍ وَطَالِبٌ مَا يَرْجُوهُ. فَهُوَ أَوْلَى حِينَئِذٍ بِالْمُعَارَضَةِ وَالِاعْتِرَاضِ.
وَالَّذِي أَوْجَبَ لِلشَّيْخِ هَذَا الْقَدْرَ: الِاسْتِرْسَالُ فِي الْقَدَرِ. وَالْفَنَاءُ فِي شُهُودِ الْحَقِيقَةِ الْكَوْنِيَّةِ. فَإِنَّهُ مِنَ الرَّاسِخِينَ فِيهِ، الَّذِينَ لَا تَأْخُذُهُمْ فِيهِ لَوْمَةُ لَائِمٍ. وَهُوَ شَدِيدٌ فِي إِنْكَارِ الْأَسْبَابِ. وَهَذَا مَوْضِعٌ زَلَّتْ فِيهِ أَقْدَامُ أَئِمَّةٍ أَعْلَامٍ.
وَلَوْلَا أَنَّ حَقَّ الْحَقِّ أَوْجَبُ مِنْ حَقِّ الْخَلْقِ لَكَانَ فِي الْإِمْسَاكِ فُسْحَةٌ وَمُتَّسَعٌ.
وَلَيْسَ فِي الرَّجَاءِ وَلَا فِي الدُّعَاءِ مُعَارَضَةٌ لِتَصَرُّفِ الْمَالِكِ فِي مُلْكِهِ. فَإِنَّهُ إِنَّمَا يَرْجُو تَصَرُّفَهُ فِي مُلْكِهِ أَيْضًا بِمَا هُوَ أَوْلَى وَأَحَبُّ الْأَمْرَيْنِ إِلَيْهِ. فَإِنَّ الْفَضْلَ أَحَبُّ إِلَيْهِ مِنَ الْعَدْلِ، وَالْعَفْوَ أَحَبُّ إِلَيْهِ مِنَ الِانْتِقَامِ، وَالْمُسَامَحَةَ أَحَبُّ إِلَيْهِ مِنَ الِاسْتِقْصَاءِ، وَالتَّرْكَ أَحَبُّ إِلَيْهِ مِنَ الِاسْتِيفَاءِ، وَرَحْمَتَهُ غَلَبَتْ غَضَبَهُ.
فَالرَّاجِي عَلَّقَ رَجَاءَهُ بِتَصَرُّفِهِ الْمَحْبُوبِ لَهُ الْمُرْضِي لَهُ. فَلَمْ يُوجِبْ رَجَاؤُهُ خُرُوجَهُ عَنْ تَصَرُّفِهِ فِي مُلْكِهِ. بَلِ اقْتَضَى عُبُودِيَّتَهُ، وَحُصُولَ أَحَبِّ التَّصَرُّفَيْنِ إِلَيْهِ. وَهُوَ سُبْحَانُهُ وَتَعَالَى لَا يَنْتَفِعُ بِاسْتِيفَاءِ حَقِّهِ وَعُقُوبَةِ عَبْدِهِ، حَتَّى يَكُونَ رَجَاؤُهُ مُبْطِلًا لِذَلِكَ. وَإِنَّمَا الْعَبْدُ اسْتَدْعَى الْعُقُوبَةَ، وَأَخَذَ الْحَقَّ مِنْهُ لِشِرْكِهِ بِاللَّهِ وَكُفْرِهِ بِهِ. وَاجْتِهَادِهِ فِي غَضَبِهِ. وَلِغَضَبِهِ مُوجِبَاتٌ وَآثَارٌ وَمُقْتَضَيَاتٌ، وَالْعَبْدُ مُؤْثِرٌ لَهَا، سَاعٍ فِي تَحْصِيلِهَا، عَامِلٍ عَلَيْهَا بِإِيثَارِهِ إِيَّاهَا وَسَعْيِهِ فِي أَسْبَابِهَا. فَهُوَ الْمُهْلِكُ لِنَفْسِهِ. وَرَبُّهُ يُحَذِّرُهُ وَيُبَصِّرُهُ وَيُنَادِيهِ: هَلُمَّ إِلَيَّ أَحْمِكَ وَأَصُنْكَ، وَأُنْجِكَ مِمَّا تَحْذَرُ، وَأُؤَمِّنْكَ مِنْ كُلِّ مَا تَخَافُ، وَهُوَ يَأْبَى إِلَّا شُرُودًا عَلَيْهِ وَنِفَارًا عَنْهُ، وَمُصَالَحَةً لِعَدُوِّهِ، وَمُظَاهَرَةً لَهُ عَلَى رَبِّهِ. وَمُتَطَلِّبًا لِمَرْضَاةِ خَلْقِهِ بِمَسَاخِطِهِ. رِضَا الْمَخْلُوقِ آثَرُ عِنْدَهُ مِنْ رِضَا خَالِقِهِ. وَحَقُّهُ آكُدُ عِنْدَهُ مِنْ حَقِّهِ. وَخَوْفُهُ وَرَجَاؤُهُ وَحُبُّهُ فِي قَلْبِهِ أَعْظَمُ مِنْ خَوْفِهِ مِنَ اللَّهِ وَرَجَائِهِ وَحُبِّهِ. فَلَمْ يَدَعْ لِفَضْلِ رَبِّهِ وَكَرَامَتِهِ وَثَوَابِهِ إِلَيْهِ طَرِيقًا، بَلْ سَدَّ دُونَهُ طُرُقَ مَجَارِيهَا بِجُهْدِهِ. وَأَعْطَى بِيَدِهِ لِعَدُوِّهِ. فَصَالَحَهُ وَسَمِعَ لَهُ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute