وَأَطَاعَ. وَانْقَادَ إِلَى مَرْضَاتِهِ. فَجَاءَ مِنَ الظُّلْمِ بِأَقْبَحِهِ وَأَشَدِّهِ.
فَهُوَ الَّذِي عَارَضَ مُرَادَهُ بِهِ مِنْهُ بِمُرَادِهِ وَهَوَاهُ وَشَهْوَتِهِ. وَاعْتَرَضَ لِمَحَابِّهِ وَمَرَاضِيهِ بِالدَّفْعِ. وَلَمْ يَأْذَنْ لَهَا فِي الدُّخُولِ عَلَيْهِ. فَأَضَاعَ حَظَّهُ وَبَخَسَ حَقَّهُ. وَظَلَمَ نَفْسَهُ. وَعَادَى حَبِيبَهُ. وَوَالَى عَدُوَّهُ. وَأَسْخَطَ مِنْ حَيَاتِهِ فِي رِضَاهُ. وَأَرْضَى مِنْ حَيَاتِهِ فِي سَخَطِهِ. وَجَادَ بِنَفْسِهِ لِعَدُوِّهِ. وَبَخِلَ بِهَا عَنْ حَبِيبِهِ وَوَلِيِّهِ.
وَالرَّبُّ تَبَارَكَ وَتَعَالَى لَيْسَ لَهُ ثَأْرٌ عِنْدَ عَبْدِهِ فَيُدْرِكَهُ بِعُقُوبَتِهِ. وَلَا يَتَشَفَّى بِعِقَابِهِ. وَلَا يَزِيدُ ذَلِكَ فِي مُلْكِهِ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ مِنْ مُلْكِهِ. كَيْفَ، وَالرَّحْمَةُ أَوْسَعُ مِنَ الْعُقُوبَةِ وَأَسْبَقُ مِنَ الْغَضَبِ وَأَغْلَبُ لَهُ؟ وَهُوَ قَدْ كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ. فَرَجَاءُ الْعَبْدِ لَهُ لَا يُنْقِصُ شَيْئًا مِنْ حِكْمَتِهِ. وَلَا يُنْقِصُ ذَرَّةً مِنْ مُلِكِهِ. وَلَا يُخْرِجُهُ عَنْ كَمَالِ تَصَرُّفِهِ. وَلَا يُوجِبُ خِلَافَ كَمَالِهِ. وَلَا تَعْطِيلَ أَوْصَافِهِ وَأَسْمَائِهِ. وَلَوْلَا أَنَّ الْعَبْدَ هُوَ الَّذِي سَدَّ عَلَى نَفْسِهِ طُرُقَ الْخَيْرَاتِ، وَأَغْلَقَ دُونَهَا أَبْوَابَ الرَّحْمَةِ بِسُوءِ اخْتِيَارِهِ لِنَفْسِهِ لَكَانَ رَبُّهُ لَهُ فَوْقَ رَجَائِهِ وَفَوْقَ أَمَلِهِ.
وَأَمَّا اسْتِسْلَامُ الْعَبْدِ لِرَبِّهِ، وَاسْتِسْلَامُهُ بِانْطِرَاحِهِ بَيْنَ يَدَيْهِ، وَرِضَاهُ بِمَوَاقِعِ حُكْمِهِ فِيهِ فَمَا ذَاكَ إِلَّا رَجَاءً مِنْهُ أَنْ يَرْحَمَهُ، وَيُقِيلَهُ عَثْرَتَهُ وَيَعْفُوَ عَنْهُ، وَيَقْبَلَ حَسَنَاتِهِ مَعَ عُيُوبِ أَعْمَالِهِ وَآفَاتِهَا. وَيَتَجَاوَزُ عَنْ سَيِّئَاتِهِ. فَقُوَّةُ رَجَائِهِ أَوْجَبَتْ لَهُ هَذَا الِاسْتِسْلَامَ وَالِانْقِيَادَ، وَالِانْطِرَاحَ بِالْبَابِ. وَلَا يُتَصَوَّرُ هَذَا بِدُونِ الرَّجَاءِ أَلْبَتَّةَ. فَالرَّجَاءُ حَيَاةُ الطَّلَبِ. وَالْإِرَادَةُ رُوحُهَا.
وَأَمَّا رِضَاهُ بِمُرَادِهِ مِنْهُ وَإِنْ عَذَّبَهُ فَهَذَا هُوَ الرُّعُونَةُ كُلُّ الرُّعُونَةِ. فَإِنَّ مُرَادَهُ سُبْحَانَهُ نَوْعَانِ: مُرَادٌ يُحِبُّهُ وَيَرْضَاهُ. وَيَمْدَحُ فَاعِلَهُ وَيُوَالِيهِ. فَمُوَافَقَتُهُ فِي هَذَا الْمُرَادِ هِيَ عَيْنُ مَحَبَّتِهِ، وَإِرَادَةُ خِلَافِهِ رُعُونَةٌ وَمُعَارَضَةٌ وَاعْتِرَاضٌ. وَمُرَادٌ يُبْغِضُهُ وَيَكْرَهُهُ وَيَمْقُتُ فَاعِلَهُ وَيُعَادِيهِ. فَمُوَافَقَتُهُ فِي هَذَا الْمُرَادِ عَيْنُ مُشَاقَّتِهِ وَمُعَادَاتِهِ وَمُخَالَفَتِهِ وَالتَّعَرُّضِ لِمَقْتِهِ وَسَخَطِهِ.
فَهَذَا الْمَوْضِعُ مَوْضِعُ فُرْقَانٍ. فَالْمُوَافَقَةُ كُلُّ الْمُوَافَقَةِ مُعَارَضَةُ هَذَا الْمُرَادِ، وَاعْتِرَاضُهُ بِالدَّفْعِ وَالرَّدِّ بِالْمُرَادِ الْآخَرِ.
فَالْعُبُودِيَّةُ الْحَقُّ مُعَارَضَةُ مُرَادِهِ بِمُرَادِهِ، وَمُزَاحَمَةُ أَحْكَامِهِ بِأَحْكَامِهِ.
فَاسْتِسْلَامُهُ لِهَذَا الْمُرَادِ الْمَكْرُوهِ الْمَسْخُوطِ، وَمَا يُوجِبُهُ وَيَقْتَضِيهِ عَيْنُ الرُّعُونَةِ. وَالْخُرُوجُ عَنِ الْعُبُودِيَّةِ. وَهُوَ عَيْنُ الدَّعْوَى الْكَاذِبَةِ؛ إِذْ لَوْ كَانَ مَصْدَرَ ذَلِكَ الِاسْتِسْلَامُ وَالْمُوَافَقَةُ، وَتَرَكُ الِاعْتِرَاضِ وَالْمُعَارَضَةِ، لَكَانَ ذَلِكَ مَخْصُوصًا بِمَحَابِّهِ وَمَرَاضِيهِ، وَأَوَامِرِهِ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute