للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

الرُّعُونَةُ كُلُّ الرُّعُونَةِ إِلَّا خِلَافُ ذَلِكَ؟

وَمِنَ الْعَجَبِ دَعْوَاهُمْ خُرُوجَهُمْ عَنْ نُفُوسِهِمْ. وَهُمْ أَعْظَمُ النَّاسِ عِبَادَةً لِنُفُوسِهِمْ. وَلَيْسَ الْخَارِجُ عَنْ نَفْسِهِ إِلَّا مَنْ جَعَلَهَا حَبْسًا عَلَى مُرَادِ اللَّهِ الدِّينِيِّ الْأَمْرِيِّ النَّبَوِيِّ. وَبَذَلَهَا لِلَّهِ فِي إِقَامَةِ دِينِهِ. وَتَنْفِيذِهِ بَيْنَ أَهْلِ الْعِنَادِ وَالْمُعَارَضَةِ وَالْبَغْيِ. فَانْغَمَسَ فِيهِمْ يُمَزِّقُونَ أَدِيمَهُ، وَيَرْمُونَهُ بِالْعَظَائِمِ. وَيُخِيفُونَهُ بِأَنْوَاعِ الْمَخَاوِفِ، وَيَتَطَلَّبُونَ دَمَهُ بِجُهْدِهِمْ، لَا تَأْخُذُهُ فِي جِهَادِهِمْ فِي اللَّهِ لَوْمَةُ لَائِمٍ. يَصْدَعُ بِالْحَقِّ عِنْدَ مَنْ يَخَافُهُ وَيَرْجُوهُ، قَدْ زَهِدَ فِي مَدْحِهِمْ وَثَنَائِهِمْ. وَتَعْظِيمِهِمْ وَتَشْيِيخِهِمْ لَهُ، وَتَقْبِيلِ يَدِهِ وَقَضَاءِ حَوَائِجِهِ. يَصِيحُ فِيهِمْ بِالنَّصَائِحِ جِهَارًا. وَيُعْلِنُ لَهُمْ بِهَا. وَيُسِرُّ لَهُمْ إِسْرَارًا. قَدْ تَجَرَّدَ عَنِ الْأَوْضَاعِ وَالْقُيُودِ وَالرُّسُومِ. وَتَعَلَّقَ بِمَرَاضِيِ الْحَيِّ الْقَيُّومِ. مَقَامُهُ سَاعَةٌ فِي جِهَادِ أَعْدَاءِ اللَّهِ. وَرِبَاطُهُ لَيْلَةٌ عَلَى ثَغْرِ الْإِيمَانِ، آثَرُ عِنْدَهُ وَأَحَبُّ إِلَيْهِ مِنْ فَنَاءٍ وَمُشَاهَدَاتٍ وَأَحْوَالٍ هِيَ أَعْظَمُ عَيْشِ النَّفْسِ وَأَعْلَى قُوَّتِهَا، وَأَوْفَرُ حَظِّهَا. وَيَزْعُمُ أَنَّهُ قَدْ خَرَجَ عَنْ نَفْسِهِ؛ فَكَيْفَ حَظُّهَا؟ وَلَعَلَّهُ قَدْ خَرَجَ عَنْ مُرَادِ رَبِّهِ مِنْ عُبُودِيَّتِهِ إِلَى عَيْنِ مُرَادِهِ. وَهُوَ حَظُّهُ. وَلَوْ فَتَّشَ نَفْسَهُ لَرَأَى ذَلِكَ فِيهَا عَيَانًا.

وَهَلِ الرُّعُونَةُ كُلُّ الرُّعُونَةِ إِلَّا دَعْوَاهُ أَنَّهُ يُحِبُّ رَبَّهُ لِعَذَابِهِ لَا لِثَوَابِهِ؟ وَأَنَّهُ إِذَا أَحَبَّهُ وَأَطَاعَهُ لِلثَّوَابِ كَانَ ذَلِكَ حَظًّا وَإِيثَارًا لِمُرَادِ النَّفْسِ؟ بِخِلَافِ مَا إِذَا أَحَبَّهُ وَأَطَاعَهُ لِيُعَذِّبَهُ. فَإِنَّهُ لَا حَظَّ لِلنَّفْسِ فِي ذَلِكَ؟

فَوَاللَّهِ لَيْسَ فِي أَنْوَاعِ الرُّعُونَةِ وَالْحَمَاقَةِ أَقْبَحُ مِنْ هَذَا وَلَا أَسْمَجُ. وَمَاذَا يَلْعَبُ الشَّيْطَانُ بِالنُّفُوسِ؟ وَإِنَّ نَفْسًا وَصَلَ بِهَا تَلْبِيسُ الشَّيْطَانِ إِلَى هَذِهِ الْحَالَةِ الْمُحْتَاجَةِ إِلَى سُؤَالِ الْمُعَافَاةِ.

فَزِنْ أَحْوَالَ الْأَنْبِيَاءِ وَالرُّسُلِ وَالصِّدِّيقِينَ، وَسُؤَالَهُمْ رَبَّهُمْ، عَلَى أَحْوَالِ هَؤُلَاءِ الْغَالِطِينَ، الَّذِينَ مَرَجَتْ بِهِمْ نُفُوسُهُمْ. ثُمَّ قَايِسْ بَيْنَهُمَا. وَانْظُرِ التَّفَاوُتَ.

فَأَيْنَ هَذَا مِنْ دُعَاءِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِرِضَاكَ مِنْ سَخَطِكَ، وَبِمُعَافَاتِكَ مِنْ عُقُوبَتِكَ، وَبِكَ مِنْكَ، لَا أُحْصِي ثَنَاءً عَلَيْكَ، أَنْتَ كَمَا أَثْنَيْتَ عَلَى نَفْسِكَ» ؟ وَقَوْلِهِ لِعَمِّهِ الْعَبَّاسِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: «يَا عَبَّاسُ، يَا عَمَّ رَسُولِ اللَّهِ، سَلِ اللَّهَ الْعَافِيَةَ.» وَقَوْلِهِ لِلصِّدِّيقِ

<<  <  ج: ص:  >  >>