للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

مِنْ ذَلِكَ مَا نَهَانَا عَنْهُ أَنْ نَرْضَى بِهِ. وَلَا نَتَقَدَّمُ بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ تَعَالَى، وَلَا نَعْتَرِضُ عَلَى حُكْمِهِ.

وَقَالَتْ طَائِفَةٌ أُخْرَى: يُطْلَقُ الرِّضَا بِالْقَضَاءِ فِي الْجُمْلَةِ، دُونَ تَفَاصِيلِ الْمَقْضِيِّ الْمُقَدَّرِ. فَنَقُولُ: نَرْضَى بِقَضَاءِ اللَّهِ جُمْلَةً وَلَا نَسْخَطُهُ. وَلَا نُطْلِقُ الرِّضَا عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ تَفَاصِيلِ الْمَقْضِيِّ. كَمَا يَقُولُ الْمُسْلِمُونَ: كُلُّ شَيْءٍ يَبِيدُ وَيَهْلِكُ. وَلَا يَقُولُونَ: حُجَجُ اللَّهِ تَبِيدُ وَتَهْلِكُ. وَيَقُولُونَ: اللَّهُ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ. وَلَا يُضِيفُونَ رُبُوبِيَّتَهُ إِلَى الْأَعْيَانِ الْمُسْتَخْبِثَةِ الْمُسْتَقْذَرَةِ بِخُصُوصِهَا.

وَقَالَتْ طَائِفَةٌ أُخْرَى: نَرْضَى بِهَا مِنْ جِهَةِ إِضَافَتِهَا إِلَى الرَّبِّ خَلْقًا وَمَشِيئَةً، وَنسْخَطُهَا مِنْ جِهَةِ إِضَافَتِهَا إِلَى الْعَبْدِ كَسْبًا لَهُ وَقِيَامًا بِهِ.

وَقَالَتْ طَائِفَةٌ أُخْرَى: بَلْ نَرْضَى بِالْقَضَاءِ وَنَسْخَطُ الْمَقْضِيَّ. فَالرِّضَا وَالسَّخَطُ لَمْ يَتَعَلَّقَا بِشَيْءٍ وَاحِدٍ.

وَهَذِهِ الْأَجْوِبَةُ لَا يَتَمَشَّى شَيْءٌ مِنْهَا عَلَى أُصُولِ مَنْ يَجْعَلُ مَحَبَّةَ الرَّبِّ تَعَالَى وَرِضَاهُ وَمَشِيئَتَهُ وَاحِدَةً، كَمَا هُوَ أَحَدُ قَوْلَيِ الْأَشْعَرِيِّ، وَأَكْثَرِ أَتْبَاعِهِ.

فَإِنَّ هَؤُلَاءِ يَقُولُونَ: إِنَّ كُلَّ مَا شَاءَهُ وَقَضَاهُ فَقَدْ أَحَبَّهُ وَرَضِيَهُ، وَإِذَا كَانَ الْكَوْنُ مَحْبُوبًا لَهُ مَرْضِيًّا، فَنَحْنُ نُحِبُّ مَا أَحَبَّهُ، وَنَرْضَى مَا رَضِيَهُ.

وَقَوْلُكُمْ: إِنَّ الرِّضَا بِالْقَضَاءِ يُطْلَقُ جُمْلَةً وَلَا يُطْلَقُ تَفْصِيلًا. فَذَلِكَ لَا يَمْنَعُ دُخُولَهُ فِي جُمْلَةِ الْمَرْضِيِّ بِهِ. فَيَعُودُ الْإِشْكَالُ.

وَقَوْلُكُمْ: نَرْضَى بِهَا مِنْ جِهَةِ كَوْنِهَا خَلْقًا لِلَّهِ، وَنَسْخَطُهَا مِنْ جِهَةِ كَوْنِهَا كَسْبًا لِلْعَبْدِ: فَكَسْبُ الْعَبْدِ إِنْ كَانَ أَمْرًا وُجُودِيًّا فَهُوَ خَلْقٌ لِلَّهِ فَنَرْضَى بِهِ، وَإِنْ كَانَ أَمْرًا عَدَمِيًّا فَلَا حَقِيقَةَ لَهُ تُرْضِي وَلَا تُسْخِطُ.

وَأَمَّا قَوْلُكُمْ: نَرْضَى بِالْقَضَاءِ دُونَ الْمَقْضِيِّ: فَهَذَا إِنَّمَا يَصِحُّ عَلَى قَوْلِ مَنْ يَجْعَلُ الْقَضَاءَ غَيْرَ الْمَقْضِيِّ، وَالْفِعْلَ غَيْرَ الْمَفْعُولِ. وَأَمَّا مَنْ لَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَهُمَا: فَكَيْفَ يَصِحُّ هَذَا عَلَى أَصْلِهِ؟ .

وَقَدْ أَوْرَدَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ الْبَاقِلَّانِيُّ عَلَى نَفْسِهِ هَذَا السُّؤَالَ، فَقَالَ:

فَإِنْ قِيلَ: الْقَضَاءُ عِنْدَكُمْ هُوَ الْمَقْضِيُّ، أَوْ غَيْرُهُ؟

قِيلَ: هُوَ عَلَى ضَرْبَيْنِ. فَالْقَضَاءُ - بِمَعْنَى الْخَلْقِ - هُوَ الْمَقْضِيُّ. لِأَنَّ الْخَلْقَ هُوَ

<<  <  ج: ص:  >  >>