الْمَخْلُوقُ. وَالْقَضَاءُ - الَّذِي هُوَ الْإِلْزَامُ وَالْإِعْلَامُ وَالْكِتَابَةُ - غَيْرُ الْمَقْضِيِّ. لِأَنَّ الْأَمْرَ غَيْرُ الْمَأْمُورِ. وَالْخَبَرَ غَيْرُ الْمُخْبَرِ عَنْهُ.
وَهَذَا الْجَوَابُ لَا يُخَلِّصُهُ أَيْضًا. لِأَنَّ الْكَلَامَ لَيْسَ فِي الْإِلْزَامِ وَالْإِعْلَامِ وَالْكِتَابَةِ. وَإِنَّمَا الْكَلَامُ فِي نَفْسِ الْفِعْلِ الْمَقْدُورِ، الْمُعْلَمِ بِهِ الْمَكْتُوبِ: هَلْ مُقَدِّرُهُ وَكَاتِبُهُ سُبْحَانَهُ رَاضٍ بِهِ أَمْ لَا؟ وَهَلِ الْعَبْدُ مَأْمُورٌ بِالرِّضَا بِهِ نَفْسِهِ أَمْ لَا؟ هَذَا هُوَ حَرْفُ الْمَسْأَلَةِ.
وَقَدْ أَنْكَرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَلَى مَنْ جَعَلَ مَشِيئَتَهُ وَقَضَاءَهُ مُسْتَلْزِمَانِ لِمَحَبَّتِهِ وَرِضَاهُ. فَكَيْفَ بِمَنْ جَعَلَ ذَلِكَ شَيْئًا وَاحِدًا؟ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ} [الأنعام: ١٤٨] وَقَالَ تَعَالَى: {وَقَالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا عَبَدْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ نَحْنُ وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} [النحل: ٣٥] وَقَالَ تَعَالَى: {وَقَالُوا لَوْ شَاءَ الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ مَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ} [الزخرف: ٢٠] . فَهُمُ اسْتَدَلُّوا عَلَى مَحَبَّتِهِ لِشِرْكِهِمْ وَرِضَاهُ عَنْهُ بِمَشِيئَتِهِ لِذَلِكَ. وَعَارَضُوا بِهَذَا الدَّلِيلِ أَمْرَهُ وَنَهْيَهُ. وَفِيهِ أَبْيَنُ الرَّدِّ لِقَوْلِ مَنْ جَعَلَ مَشِيئَتَهُ غَيْرَ مَحَبَّتِهِ وَرِضَاهُ. فَالْإِشْكَالُ إِنَّمَا نَشَأَ مِنْ جَعَلْهِمُ الْمَشِيئَةَ نَفْسَ الْمَحَبَّةِ. ثُمَّ زَادُوهُ بِجَعْلِهِمُ الْفِعْلَ نَفْسَ الْمَفْعُولِ، وَالْقَضَاءَ عَيْنَ الْمَقْضِيِّ. فَنَشَأَ مِنْ ذَلِكَ إِلْزَامُهُمْ بِكَوْنِهِ تَعَالَى رَاضِيًا مُحِبًّا لِذَلِكَ. وَالْتِزَامُ رِضَاهُمْ بِهِ.
وَالَّذِي يَكْشِفُ هَذِهِ الْغُمَّةَ، وَيُبْصِرُ مِنْ هَذِهِ الْعِمَايَةِ، وَيُنْجِي مِنْ هَذِهِ الْوَرْطَةِ: إِنَّمَا هُوَ التَّفْرِيقُ بَيْنَ مَا فَرَّقَ اللَّهُ بَيْنَهُ، وَهُوَ الْمَشِيئَةُ وَالْمَحَبَّةُ. فَإِنَّهُمَا لَيْسَا وَاحِدًا. وَلَا هُمَا مُتَلَازِمَيْنِ. بَلْ قَدْ يَشَاءُ مَا لَا يُحِبُّهُ، وَيُحِبُّ مَا لَا يَشَاءُ كَوْنَهُ.
فَالْأَوَّلُ: كَمَشِيئَتِهِ لِوُجُودِ إِبْلِيسَ وَجُنُودِهِ. وَمَشِيئَتِهِ الْعَامَّةِ لِجَمِيعِ مَا فِي الْكَوْنِ مَعَ بُغْضِهِ لِبَعْضِهِ.
وَالثَّانِي: كَمَحَبَّتِهِ إِيمَانَ الْكُفَّارِ، وَطَاعَاتِ الْفُجَّارِ، وَعَدْلَ الظَّالِمِينَ، وَتَوْبَةَ الْفَاسِقِينَ. وَلَوْ شَاءَ ذَلِكَ لَوُجِدَ كُلُّهُ وَكَانَ جَمِيعُهُ. فَإِنَّهُ مَا شَاءَ كَانَ. وَمَا لَمْ يَشَأْ لَمْ يَكُنْ.
فَإِذَا تَقَرَّرَ هَذَا الْأَصْلُ، وَأَنَّ الْفِعْلَ غَيْرُ الْمَفْعُولِ، وَالْقَضَاءَ غَيْرُ الْمَقْضِيِّ، وَأَنَّ اللَّهَ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute