للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

فَإِنَّهُ لَمْ يُوَافِقْهُ فِي مَحَبَّتِهِ وَطَاعَتِهِ، الَّتِي هِيَ سُرُورُ النَّفْسِ، وَقُرَّةُ الْعَيْنِ، وَحَيَاةُ الْقَلْبِ. فَكَيْفَ يُوَافِقُهُ فِي مَحَبَّتِهِ لِلْعُقُوبَةِ، الَّتِي هِيَ أَكْرَهُ شَيْءٍ إِلَيْهِ، وَأَشَقُّ شَيْءٍ عَلَيْهِ؟ بَلْ كَانَ كَارِهًا لِمَا يُحِبُّهُ مِنْ طَاعَتِهِ وَتَوْحِيدِهِ. فَلَا يَكُونُ رَاضِيًا بِمَا يَخْتَارُهُ مِنْ عُقُوبَتِهِ. وَلَوْ قَبِلَ ذَلِكَ لَارْتَفَعَتْ عَنْهُ الْعُقُوبَةُ.

فَإِنْ قُلْتَ: فَكَيْفَ يَجْتَمِعُ الرِّضَا بِالْقَضَاءِ الَّذِي يَكْرَهُهُ الْعَبْدُ - مِنَ الْمَرَضِ وَالْفَقْرِ وَالْأَلَمِ - مَعَ كَرَاهَتِهِ؟

قُلْتُ: لَا تَنَافِيَ فِي ذَلِكَ. فَإِنَّهُ يَرْضَى بِهِ مِنْ جِهَةِ إِفْضَائِهِ إِلَى مَا يُحِبُّ. وَيَكْرَهُهُ مِنْ جِهَةِ تَأَلُّمِهِ بِهِ، كَالدَّوَاءِ الْكَرِيهِ الَّذِي يَعْلَمُ أَنَّ فِيهِ شِفَاءَهُ. فَإِنَّهُ يَجْتَمِعُ فِيهِ رِضَاهُ بِهِ، وَكَرَاهَتُهُ لَهُ.

فَإِنْ قُلْتَ: كَيْفَ يَرْضَى لِعَبْدِهِ شَيْئًا، وَلَا يُعِينُهُ عَلَيْهِ؟

قُلْتُ: لِأَنَّ إِعَانَتَهُ عَلَيْهِ قَدْ تَسْتَلْزِمُ فَوَاتَ مَحْبُوبٍ لَهُ أَعْظَمَ مِنْ حُصُولِ تِلْكَ الطَّاعَةِ الَّتِي رَضِيَهَا لَهُ. وَقَدْ يَكُونُ وُقُوعُ تِلْكَ الطَّاعَةِ مِنْهُ يَتَضَمَّنُ مَفْسَدَةً هِيَ أَكْرَهُ إِلَيْهِ سُبْحَانَهُ مِنْ مَحَبَّتِهِ لِتِلْكَ الطَّاعَةِ، بِحَيْثُ يَكُونُ وُقُوعُهَا مِنْهُ مُسْتَلْزِمًا لِمَفْسَدَةٍ رَاجِحَةٍ، وَمُفَوِّتًا لِمَصْلَحَةٍ رَاجِحَةٍ، وَقَدْ أَشَارَ تَعَالَى إِلَى ذَلِكَ فِي قَوْلِهِ: {وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ - لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالًا وَلَأَوْضَعُوا خِلَالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ} [التوبة: ٤٦ - ٤٧] . فَأَخْبَرَ سُبْحَانَهُ: أَنَّهُ كَرِهَ انْبِعَاثَهُمْ مَعَ رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلْغَزْوِ. وَهُوَ طَاعَةٌ وَقُرْبَةٌ، وَقَدْ أَمَرَهُمْ بِهِ، فَلَمَّا كَرِهَهُ مِنْهُمْ ثَبَّطَهُمْ عَنْهُ. ثُمَّ ذَكَرَ سُبْحَانَهُ بَعْضَ الْمَفَاسِدِ الَّتِي كَانَتْ سَتَتَرَتَّبُ عَلَى خُرُوجِهِمْ لَوْ خَرَجُوا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فَقَالَ: {لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالًا} [التوبة: ٤٧] أَيْ فَسَادًا وَشَرًّا {وَلَأَوْضَعُوا خِلَالَكُمْ} [التوبة: ٤٧] أَيْ سَعَوْا فِيمَا بَيْنَكُمْ بِالْفَسَادِ وَالشَّرِّ. {يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ} [التوبة: ٤٧] . أَيْ قَابِلُونِ مِنْهُمْ مُسْتَجِيبُونَ لَهُمْ. فَيَتَوَلَّدُ مِنْ بَيْنِ سَعْيِ هَؤُلَاءِ بِالْفَسَادِ وَقَبُولِ أُولَئِكَ مِنْهُمْ مَنِ الشَّرِّ مَا هُوَ أَعْظَمُ مِنْ مَصْلَحَةِ خُرُوجِهِمْ. فَاقْتَضَتِ الْحِكْمَةُ وَالرَّحْمَةُ: أَنْ مَنَعَهُمْ مِنَ الْخُرُوجِ، وَأَقْعَدَهُمْ عَنْهُ.

فَاجْعَلْ هَذَا الْمِثَالَ أَصْلًا لِهَذَا الْبَابِ. وَقِسْ عَلَيْهِ.

فَإِنْ قُلْتَ: قَدْ يُتَصَوَّرُ لِي هَذَا فِي رِضَا الرَّبِّ تَعَالَى لِبَعْضِ مَا يَخْلُقُهُ مِنْ وَجْهٍ وَكَرَاهَتِهِ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ. فَكَيْفَ لِي بِأَنْ يَجْتَمِعَ الْأَمْرَانِ فِي حَقِّي بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْمَعَاصِي وَالْفُسُوقِ؟

<<  <  ج: ص:  >  >>