قُلْتُ: هُوَ مُتَصَوَّرٌ مُمْكِنٌ، بَلْ وَاقِعٌ. فَإِنَّ الْعَبْدَ يَسْخَطُ ذَلِكَ وَيُبْغِضُهُ، وَيَكْرَهُهُ مِنْ حَيْثُ هُوَ فُعِلَ لَهُ بِسَبَبِهِ وَوَاقِعٌ بِكَسْبِهِ وَإِرَادَتِهِ، وَاخْتِيَارِهِ. وَيَرْضَى بِعِلْمِ اللَّهِ وَكِتَابَتِهِ وَمَشِيئَتِهِ، وَإِذْنِهِ الْكَوْنِيِّ فِيهِ. فَيَرْضَى بِمَا مَنَّ اللَّهُ، وَيَسْخَطُ مَا هُوَ مِنْهُ، فَهَذَا مَسْلَكُ طَائِفَةٍ مِنْ أَهْلِ الْعِرْفَانِ.
وَطَائِفَةٌ أُخْرَى رَأَوْا كَرَاهَةَ ذَلِكَ مُطْلَقًا، وَعَدَمَ الرِّضَا بِهِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ.
وَهَؤُلَاءِ فِي الْحَقِيقَةِ لَا يُخَالِفُونَ أُولَئِكَ. فَإِنَّ الْعَبْدَ إِذَا كَرِهَهَا مُطْلَقًا، فَإِنَّ الْكَرَاهَةَ إِنَّمَا تَقَعُ عَلَى الِاعْتِبَارِ الْمَكْرُوهِ مِنْهَا. وَهَؤُلَاءِ لَمْ يَكْرَهُوا عِلْمَ الرَّبِّ وَكِتَابَتَهُ وَمَشِيئَتَهُ، وَإِلْزَامَهُ حُكْمَهُ الْكَوْنِيَّ، وَأُولَئِكَ لَمْ يَرْضَوْا بِهَا مِنَ الْوَجْهِ الَّذِي سَخِطَهَا الرَّبُّ وَأَبْغَضَهَا لِأَجْلِهِ.
وَسِرُّ الْمَسْأَلَةِ: أَنَّ الَّذِي إِلَى الرَّبِّ مِنْهَا غَيْرُ مَكْرُوهٍ. وَالَّذِي إِلَى الْعَبْدِ مِنْهَا هُوَ الْمَكْرُوهُ وَالْمَسْخُوطُ.
فَإِنْ قُلْتَ: لَيْسَ إِلَى الْعَبْدِ شَيْءٌ مِنْهَا؟
قُلْتُ: هَذَا هُوَ الْجَبْرُ الْبَاطِلُ، الَّذِي لَا يُمْكِنُ صَاحِبَهُ التَّخَلُّصُ مِنْ هَذَا الْمَقَامِ الضَّيِّقِ. وَالْقَدَرِيُّ أَقْرَبُ إِلَى التَّخَلُّصِ مِنْهُ مِنَ الْجَبْرِيِّ. وَأَهْلُ السُّنَّةِ الْمُتَوَسِّطُونَ بَيْنَ الْقَدَرِيَّةِ وَالْجَبْرِيَّةِ: هُمْ أَسْعَدُ بِالتَّخَلُّصِ مِنْهُ مِنَ الْفَرِيقَيْنِ.
فَإِنْ قُلْتَ: كَيْفَ يَتَأَتَّى النَّدَمُ وَالتَّوْبَةُ، مَعَ شُهُودِ الْحِكْمَةِ فِي التَّقْدِيرِ، وَمَعَ شُهُودِ الْقَيُّومِيَّةِ وَالْمَشِيئَةِ النَّافِذَةِ؟
قُلْتُ: هَذَا الَّذِي أَوْقَعَ مَنْ عَمِيَتْ بَصِيرَتُهُ فِي شُهُودِ الْأَمْرِ عَلَى خِلَافِ مَا هُوَ عَلَيْهِ. فَرَأَى تِلْكَ الْأَفْعَالَ طَاعَاتٍ، لِمُوَافَقَتِهِ فِيهَا الْمَشِيئَةَ وَالْقَدَرَ. وَقَالَ: إِنْ عَصَيْتُ أَمْرَهُ. فَقَدْ أَطَعْتُ إِرَادَتَهُ فِي ذَلِكَ. وَقِيلَ:
أَصْبَحْتُ مُنْفَعِلًا لِمَا تَخْتَارُهُ ... مِنِّي، فَفِعْلِي كُلُّهُ طَاعَاتٌ
وَهَؤُلَاءِ أَعْمَى الْخَلْقِ بَصَائِرَ، وَأَجْهَلُهُمْ بِاللَّهِ وَأَحْكَامِهِ الدِّينِيَّةِ وَالْكَوْنِيَّةِ. فَإِنَّ الطَّاعَةَ هِيَ مُوَافَقَةُ الْأَمْرِ. لَا مُوَافَقَةُ الْقَدَرِ وَالْمَشِيئَةِ. وَلَوْ كَانَتْ مُوَافَقَةُ الْقَدَرِ طَاعَةً لِلَّهِ لَكَانَ إِبْلِيسُ مِنْ أَعْظَمِ الْمُطِيعِينَ لِلَّهِ. وَكَانَ قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ، وَقَوْمُ لُوطٍ، وَقَوْمُ فِرْعَوْنَ كُلُّهُمْ مُطِيعِينَ لَهُ. فَيَكُونُ قَدْ عَذَّبَهُمْ أَشَدَّ الْعَذَابِ عَلَى طَاعَتِهِ، وَانْتَقَمَ مِنْهُمْ لِأَجْلِهَا. وَهَذَا غَايَةُ الْجَهْلِ بِاللَّهِ وَأَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ وَأَفْعَالِهِ.
فَإِنْ قُلْتَ: وَمَعَ ذَلِكَ، فَاجْمَعْ لِي بَيْنَ النَّدَمِ وَالتَّوْبَةِ. وَبَيْنَ مَشْهَدِ الْقَيُّومِيَّةِ وَالْحِكْمَةِ؟