قُلْتُ: الْعَبْدُ إِذَا شَهِدَ عَجْزَ نَفْسِهِ، وَنُفُوذَ الْأَقْدَارِ فِيهِ، وَكَمَالَ فَقْرِهِ إِلَى رَبِّهِ، وَعَدَمَ اسْتِغْنَائِهِ عَنْ عِصْمَتِهِ وَحِفْظِهِ طَرْفَةَ عَيْنٍ - كَانَ بِاللَّهِ فِي هَذِهِ الْحَالِ، لَا بِنَفْسِهِ فَوُقُوعُ الذَّنْبِ مِنْهُ لَا يَتَأَتَّى فِي هَذِهِ الْحَالِ أَلْبَتَّةَ. فَإِنَّ عَلَيْهِ حِصْنًا حَصِينًا مِنْ: فَبِي يَسْمَعُ وَبِي يُبْصِرُ. وَبِي يَبْطِشُ، وَبِي يَمْشِي. فَلَا يُتَصَوَّرُ مِنْهُ الذَّنْبُ فِي هَذِهِ الْحَالِ. فَإِذَا حُجِبَ عَنْ هَذَا الْمَشْهَدِ، وَسَقَطَ إِلَى وُجُودِهِ الطَّبِيعِيِّ، وَبَقِيَ بِنَفْسِهِ: اسْتَوْلَى عَلَيْهِ حُكْمُ النَّفْسِ وَالطَّبْعُ وَالْهَوَى. وَهَذَا الْوُجُودُ الطَّبِيعِيُّ قَدْ نُصِبَتْ فِيهِ الشِّبَاكُ وَالْأَشْرَاكُ، وَأُرْسِلَتْ عَلَيْهِ الصَّيَّادُونَ. فَلَا بُدَّ أَنْ يَقَعَ فِي شَبَكَةٍ مِنْ تِلْكَ الشِّبَاكِ، وَشَرَكٍ مِنْ تِلْكَ الْأَشْرَاكِ. وَهَذَا الْوُجُودُ هُوَ حِجَابٌ بَيْنَهُ وَبَيْنَ رَبِّهِ، فَعِنْدَ ذَلِكَ يَقَعُ الْحِجَابُ. وَيَقْوَى الْمُقْتَضَى، وَيَضْعُفُ الْمَانِعُ. وَتَشْتَدُّ الظُّلْمَةُ، وَتَضْعُفُ الْقُوَى، فَأَنَّى لَهُ بِالْخَلَاصِ مِنْ تِلْكَ الْأَشْرَاكِ وَالشِّبَّاكِ؟ فَإِذَا انْقَشَعَ ضَبَابُ ذَلِكَ الْوُجُودِ الطَّبِيعِيِّ، وَانْجَابَ ظَلَامُهُ، وَزَالَ قَتَامُهُ، وَصِرْتَ بِرَبِّكَ ذَاهِبًا عَنْ نَفْسِكَ وَطَبْعِكَ.
بَدَا لَكَ سِرٌّ طَالَ عَنْكَ اكْتِتَامُهُ ... وَلَاحَ صَبَاحٌ كُنْتَ أَنْتَ ظَلَامَهُ
فَإِنْ غِبْتَ عَنْهُ حَلَّ فِيهِ، وَطَنَبَّتْ ... عَلَى مِنْكَبِ الْكَشْفِ الْمَصُونِ خِيَامُهُ
فَأَنْتَ حِجَابُ الْقَلْبِ عَنْ سِرِّ غَيْبِهِ ... وَلَوْلَاكَ لَمْ يُطْبَعْ عَلَيْهِ خِتَامُهُ
وَجَاءَ حَدِيثٌ لَا يُمَلُّ سَمَاعُهُ ... شَهِيٌّ إِلَيْنَا نَثْرُهُ وَنِظَامُهُ
إِذَا ذَكَرَتْهُ النَّفْسُ زَالَ عَنَاؤُهَا ... وَزَالَ عَنِ الْقَلْبِ الْمُعَنَّى قَتَامُهُ
فَهُنَالِكَ يَحْضُرُهُ النَّدَمُ وَالتَّوْبَةُ وَالْإِنَابَةُ. فَإِنَّهُ كَانَ فِي الْمَعْصِيَةِ بِنَفْسِهِ، مَحْجُوبًا فِيهَا عَنْ رَبِّهِ، وَعَنْ طَاعَتِهِ. فَلَمَّا فَارَقَ ذَلِكَ الْوُجُودَ، وَصَارَ فِي وُجُودٍ آخَرَ: بَقِيَ بِرَبِّهِ لَا بِنَفْسِهِ.
وَإِذَا عُرِفَ هَذَا، فَالتَّوْبَةُ وَالنَّدَمُ يَكُونَانِ فِي هَذَا الْوُجُودِ الَّذِي هُوَ فِيهِ بِرَبِّهِ. وَذَلِكَ لَا يُنَافِي مَشْهَدَ الْحِكْمَةِ وَالْقَيُّومِيَّةِ، بَلْ يُجَامِعُهُ وَيَسْتَمِدُّ مِنْهُ. وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ.
قَوْلُهُ: وَيَصِحُّ بِثَلَاثَةِ شَرَائِطَ: بِاسْتِوَاءِ الْحَالَاتِ عِنْدَ الْعَبْدِ. وَسُقُوطِ الْخُصُومَةِ مَعَ الْخَلْقِ، وَالْخَلَاصِ مِنَ الْمَسْأَلَةِ وَالْإِلْحَاحِ.
يَعْنِي: أَنَّ الرِّضَا عَنِ اللَّهِ إِنَّمَا يَتَحَقَّقُ بِهَذِهِ الْأُمُورِ الثَّلَاثَةِ. فَإِنَّ الرِّضَا الْمُوَافِقَ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute