بِنَفْسِهِ، وَأَنَّ مَنْ لَمْ يَكُنْ كَيْفَ يَشْكُرُ مَنْ لَمْ يَزَلْ - عُلِمَ أَنَّ الشُّكْرَ مِنْ مَنَازِلِ الْعَامَّةِ. وَلَوْ أَنَّ السُّلْطَانَ كَسَا عَبْدًا مِنْ عَبِيدِهِ ثَوْبًا مِنْ ثِيَابِهِ. فَأَخَذَ يَشْكُرُ السُّلْطَانَ عَلَى ذَلِكَ: لَعُدَّ مُخْطِئًا، مُسِيئًا لِلْأَدَبِ. فَإِنَّهُ مُدَّعٍ بِذَلِكَ مُكَافَأَةَ السُّلْطَانِ بِشُكْرِهِ. فَإِنَّ الشُّكْرَ مُكَافَأَةٌ. وَالْعَبْدُ أَصْغَرُ قَدْرًا مِنَ الْمُكَافَأَةِ. وَالشُّهُودُ لِلْحَقِيقَةِ يَقْتَضِي اتِّحَادَ نِسْبَةِ الْأَخْذِ وَالْعَطَاءِ، وَرُجُوعَهَا إِلَى وَصْفِ الْمُعْطِي وَقُوَّتِهِ. فَالْخَاصَّةُ يَسْقُطُ عِنْدَهُمُ الشُّكْرُ بِالشُّهُودِ، وَفِي حَقِّهِمْ مَا هُوَ أَعْلَى مِنْهُ.
هَذَا غَايَةُ تَقْرِيرِ كَلَامِهِمْ. وَكَسَوْتُهُ أَحْسَنَ عِبَارَةٍ. لِئَلَّا يُتَعَدَّى عَلَيْهِمْ بِسُوءِ التَّعْبِيرِ الْمُوجِبِ لِلتَّنْفِيرِ.
وَنَحْنُ مَعَنَا الْعِصْمَةُ النَّافِعَةُ: أَنَّ كُلَّ أَحَدٍ - غَيْرَ الْمَعْصُومِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَمَأْخُوذٌ مِنْ قَوْلِهِ وَمَتْرُوكٌ. وَكُلَّ سَبِيلٍ لَا يُوَافِقُ سَبِيلَهُ فَمَهْجُورٌ غَيْرُ مَسْلُوكٍ.
فَأَمَّا تَضَمُّنُ الشُّكْرِ لِنَوْعِ دَعْوَى. فَإِنْ أُرِيدَ بِهَذِهِ الدَّعْوَى إِضَافَةُ الْعَبْدِ الْفِعْلَ إِلَى نَفْسِهِ، وَأَنَّهُ كَانَ بِهِ وَغَابَ بِذَلِكَ عَنْ كَوْنِهِ بِحَوْلِ اللَّهِ وَقُوَّتِهِ وَمِنَّتِهِ عَلَى عَبْدِهِ: فَلَعَمْرُ اللَّهِ هَذِهِ عِلَّةٌ مُؤْثَرَةٌ. وَدَعْوَى بَاطِلَةٌ كَاذِبَةٌ.
وَإِنْ أُرِيدَ: أَنَّ شُهُودَهُ لِشُكْرِهِ شُهُودُهُ لِنِعْمَةِ اللَّهِ عَلَيْهِ بِهِ، وَتَوْفِيقِهِ لَهُ فِيهِ، وَإِذْنِهِ لَهُ بِهِ، وَمَشِيئَتِهِ عَلَيْهِ وَمِنَّتِهِ. فَشَهِدَ عُبُودِيَّتَهُ وَقِيَامَهُ بِهَا، وَكَوْنَهَا بِاللَّهِ. فَأَيُّ دَعْوَى فِي هَذَا؟ وَأَيُّ عِلَّةٍ؟ .
نَعَمْ غَايَتُهُ: أَنَّهُ لَا يُجَامِعُ الْفَنَاءَ. وَلَا يَخُوضُ تَيَّارَهُ. فَكَانَ مَاذَا؟ .
فَأَنْتُمْ جَعَلْتُمُ الْفَنَاءَ غَايَةً. فَأَوْجَبَ لَكُمْ مَا أَوْجَبَ. وَقَدَّمْتُمُوهُ عَلَى مَا قَدَّمَهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ. فَتَضَمَّنَ ذَلِكَ تَقْدِيمَ مَا أُخِّرَ، وَتَأْخِيرَ مَا قُدِّمَ. وَإِلْغَاءَ مَا اعْتُبِرَ، وَاعْتِبَارَ مَا أُلْغِيَ.
وَلَوْلَا مِنَّةُ اللَّهِ عَلَى الصَّادِقِينَ مِنْكُمْ بِتَحْكِيمِ الرِّسَالَةِ، وَالتَّقَيُّدِ بِالشَّرْعِ لَكَانَ أَمْرًا غَيْرَ هَذَا. كَمَا جَرَى لِغَيْرِ وَاحِدٍ مِنَ السَّالِكِينَ عَلَى هَذِهِ الطَّرِيقِ الْخَطِرَةِ. فَلَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ. كَمْ فِيهَا مِنْ قَتِيلٍ وَسَلِيبٍ، وَجَرِيحٍ وَأَسِيرٍ وَطَرِيدٍ؟ .
وَأَمَّا قَوْلُكُمْ: إِنَّ الشَّاكِرَ فِيهِ بَقِيَّةٌ مِنْ بَقَايَا رَسْمِهِ.
فَيُقَالُ: إِذَا كَانَتْ هَذِهِ الْبَقِيَّةُ مَحْضَ الْعُبُودِيَّةِ وَمَرْكَبَهَا، وَالْحَامِلَةَ لَهَا: فَأَيُّ نَقْصٍ فِي هَذَا؟ فَإِنَّ الْعُبُودِيَّةَ لَا تَقُومُ بِنَفْسِهَا. وَإِنَّمَا تَقُومُ بِهَذَا الرَّسْمِ. فَلَا نَقْصَ فِي حَمْلِ الْعُبُودِيَّةِ عَلَيْهِ، وَالسَّيْرِ بِهِ إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ.