وَذَلِكَ مَحَلُّ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ، وَالثَّوَابِ وَالْعِقَابِ.
وَالْقَدْحُ فِي ذَلِكَ مُسْتَلْزِمٌ لِإِبْطَالِ الشَّرْعِ وَالْجَزَاءِ. فَإِنَّ الشَّرْعَ إِنَّمَا أَمَرَ بِأَفْعَالِنَا وَنَهَى عَنْهَا. وَالْجَزَاءَ إِنَّمَا تَرَتَّبَ عَلَيْهَا. فَشُهُودُ أَفْعَالِنَا كَذَلِكَ مِنْ تَمَامِ الْإِيمَانِ بِالشَّرْعِ وَالْجَزَاءِ. وَنِسْبَتُهَا إِلَى الرَّبِّ تَعَالَى، قَضَاءً وَقَدَرًا، وَخَلْقًا لِلْأَسْبَابِ الَّتِي مِنْهَا إِرَادَتُنَا وَقُدْرَتُنَا. فَلَمْ يُجْبِرْنَا عَلَيْهَا وَلَمْ يُكْرِهْنَا. بَلْ خَلَقَهَا بِمَا أَعْطَانَا مِنَ الْقُدْرَةِ وَالْإِرَادَةِ، اللَّتَيْنِ هُمَا مِنْ أَسْبَابِ الْفِعْلِ.
فَهَذَا الْمَشْهَدُ يُحَقِّقُ عُبُودِيَّةَ {إِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة: ٥] وَالْمَشْهَدُ الْأَوَّلُ: يُحَقِّقُ عُبُودِيَّةَ {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} [الفاتحة: ٥] وَهُمَا يُحَقِّقَانِ مَشْهَدَيْ {فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا - وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} [الإنسان: ٢٩ - ٣٠] وَقَوْلِهِ: {لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ - وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [التكوير: ٢٨ - ٢٩] .
وَمَا جَاءَ بِهِ الْعِلْمُ لَا يُنَاقِضُ مَا جَاءَتْ بِهِ الْمَعْرِفَةُ. بَلِ الْمَعْرِفَةُ رُوحُ الْعِلْمِ وَلُبُّهُ وَكَمَالُهُ. وَحَقِيقَتُهَا: الْعِلْمُ الَّذِي أَثْمَرَ لِصَاحِبِهِ مَقْصُودَهُ. وَلِسَانُ الْأَبْرَارِ لَا يُخَالِفُ لِسَانَ الْمُقَرَّبِينَ. إِنَّمَا يُخَالِفُ لِسَانَ الْفُجَّارِ.
نَعَمْ لِسَانُ الْمُقَرَّبِينَ أَعْلَى مِنْهُ وَأَرْفَعُ، عَلَى مُقْتَضَى أَعْمَالِهِمْ وَأَحْوَالِهِمْ. فَنِسْبَتُهُ إِلَيْهِ: كَنِسْبَةِ مَقَامِ التَّوَكُّلِ إِلَى الرِّضَا، وَالرِّضَا إِلَى الْحَمْدِ وَالشُّكْرِ.
فَإِنْ قِيلَ: كَلَامُكُمْ هَذَا بِلِسَانِ الْعِلْمِ. وَلَوْ تَكَلَّمْتُمْ بِلِسَانِ الْحَالِ لَعَلِمْتُمْ صِحَّةَ مَا ذَكَرْنَاهُ. فَإِنَّ صَاحِبَ الْحَالِ صَاحِبُ شُهُودٍ. وَصَاحِبَ الْعِلْمِ صَاحِبُ غَيْبَةٍ. وَالشَّاهِدُ يَرَى مَا لَا يَرَى الْغَائِبُ. وَنَحْنُ نُشِيرُ إِلَيْكُمْ إِشَارَةً حَالِيَّةً عِلْمِيَّةً. تَنَزُّلًا مِنَ الْحَالِ إِلَى الْعِلْمِ.
فَنَقُولُ: الْحَالُ تَأَثُّرٌ عَنْ نُورٍ مِنْ أَنْوَارِ الْأَحَدِيَّةِ وَالْفَرْدَانِيَّةِ. يَسْتُرُ الْعَبْدَ عَنْ نَفْسِهِ، وَيُبْدِي ظُهُورَ مَشْهُودِهِ. وَلَا رَيْبَ أَنَّ فِي هَذَا الْحَالِ قَدْ يُعْتَقَدُ أَنَّ الشَّاهِدَ هُوَ الْمَشْهُودُ. حَتَّى قَالَ أَبُو يَزِيدَ فِي مِثْلِ هَذَا الْحَالِ: سُبْحَانِي سُبْحَانِي، وَمَا فِي الْجُبَّةِ إِلَّا اللَّهُ. وَلَا شَكَّ أَنَّ هَذَا الِاعْتِقَادَ زُورٌ. وَأَنَّ سَبَبَهُ نُورٌ مِنْ أَنْوَارِ الْأَحَدِيَّةِ، وَصَاحِبُهُ مَعْذُورٌ. مَا دَامَ مَسْتُورًا عَنْ نَفْسِهِ بِوَارِدِهِ. فَإِذَا رُدَّ إِلَى رَسْمِهِ وَعَقْلِهِ وَحِسِّهِ: حَالَ ذَلِكَ الْحَالُ وَزَالَ، وَعَلِمَ صَاحِبُهُ أَنَّهُ كَانَ زُورًا. حَيْثُ ظَنَّ أَنَّ الشَّاهِدَ هُوَ الْمَشْهُودُ.
فَإِنْ أَنْكَرْتُمْ ذَلِكَ فَلَا كَلَامَ مَعَكُمْ. وَإِنِ اعْتَرَفْتُمْ بِهِ حَصَلَ الْمَقْصُودُ.