فَهَذَا مَعْنَى كَوْنِ أَصْدَقِ أَحْوَالِ الصَّادِقِ: زُورًا. وَإِذَا عُرِفَ هَذَا فِي الْحَالِ: عُرِفَ مِثْلُهُ فِي كَوْنِ أَحْسَنِ أَعْمَالِهِ: ذَنْبًا. فَإِنَّهُ - لِصِدْقِهِ فِي الطَّلَبِ، وَبَذْلِهِ الْجَهْدَ فِي الْعَمَلِ، وَاسْتِفْرَاغِهِ الْوُسْعَ فِيهِ - يَغِيبُ بِذَلِكَ عَنْ شُهُودِ الْحَقِيقَةِ الْكَوْنِيَّةِ، وَأَنَّ الْمُحَرِّكَ لَهُ سِوَاهُ، وَأَنَّهُ آلَةٌ وَمَجْرَى لِلْمَشِيئَةِ، وَأَنَّ نَفْسَهُ أَعْجَزُ وَأَضْعَفُ مِنْ أَنْ يَكُونَ لَهَا، أَوْ بِهَا، أَوْ مِنْهَا فِعْلٌ، أَوْ إِرَادَةٌ، أَوْ حَرَكَةٌ. فَإِذَا رَجَعَ إِلَى الْحَقِيقَةِ فَشَهِدَ مِنَّةَ اللَّهِ عَلَيْهِ، وَأَنَّهُ هُوَ الْمُحَرِّكُ لَهُ، وَأَنَّ مَشِيئَتَهُ هِيَ الَّتِي أَوْجَبَتْ سَعْيَهُ، رَأَى أَحْسَنَ أَعْمَالِهِ: ذَنْبًا بِهَذَا الِاعْتِبَارِ.
وَأَمَّا رُؤْيَتُهُ أَصْفَى قُصُودِهِ قُعُودًا فَلِأَنَّ الْقَاصِدَ إِلَى الْحَقِيقَةِ مَتَى شَهِدَ مَقْصُودَهُ: قَعَدَ عَنْ قَصْدِهِ. فَإِنَّ الْمَقْصُودَ الْمُرَادَ: أَقْرَبُ إِلَى اللِّسَانِ مِنْ نُطْقِهِ، وَإِلَى الْقَلْبِ مِنْ قَصْدِهِ. فَالْقَصْدُ إِلَيْهِ: هُوَ عَيْنُ الْقُعُودِ عَنِ الْقَصْدِ. لِأَنَّ الْقَصْدَ إِنَّمَا يَكُونُ لِبَعِيدٍ عَنِ الْقَاصِدِ. أَمَّا مَنْ هُوَ أَقْرَبُ إِلَى الْقَاصِدِ مِنْ ذَاتِهِ: فَمَتَى شَاهَدَ الْقَاصِدُ الْحَقِيقَةَ: عَلِمَ أَنَّ قَصْدَهُ عَيْنُ الْقُعُودِ عَنْ قَصْدِهِ. وَالْعِبَارَةُ تَزِيدُ هَذَا الْمَعْنَى جَفْوَةً. وَالْحَوَالَةُ فِيهِ عَلَى الْحَالِ وَالذَّوْقِ.
فَالْجَوَابُ أَنْ يُقَالَ: مَنْ أَحَالَكَ عَلَى الْحَالِ فَمَا أَنْصَفَكَ. فَإِنَّهُ أَحَالَكَ عَلَى أَمْرٍ مُشْتَرَكٍ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ. فَإِنَّ كُلَّ مَنِ اعْتَقَدَ شَيْئًا وَطَلَبَهُ طَلَبًا صَادِقًا، وَاسْتَفْرَغَ وُسْعَهُ فِي الْوُصُولِ إِلَيْهِ: كَانَ لَهُ لَا مَحَالَةَ فِيهِ حَالٌ لَيْسَتْ لِغَيْرِهِ. بِحَسَبِ صِدْقِهِ فِي طَلَبِهِ، وَجَمْعِ هِمَّتِهِ وَقَصْدِهِ عَلَيْهِ. وَهَذَا يَكُونُ لِلْأَبْرَارِ وَالْفُجَّارِ، بَلْ لِأَوْلِيَاءِ اللَّهِ وَأَعْدَائِهِ. فَيَكُونُ الرَّجُلُ لَهُ شُهُودٌ بِمَشْهُودِهِ، وَحَالٌ فِي طَلَبِهِ، لَا يُوجِبُ كَوْنَهُ حَقًّا وَلَا بَاطِلًا. فَإِنَّ كُلَّ مَنِ اعْتَقَدَ عَقِيدَةً، وَارْتَاضَ وَصُقِلَ قَلْبُهُ بِأَنْوَاعِ الرِّيَاضَةِ. وَجَزَمَ بِمَا اعْتَقَدَهُ: تَجَلَّتْ لَهُ صُورَةُ مُعْتَقَدِهِ فِي عَالَمِ نَفْسِهِ. فَيَظُنُّ ذَلِكَ كَشْفًا صَحِيحًا. وَإِنْ كَانَ صَادِقًا فِي طَلَبِهِ وَحُبِّهِ لِمَا اعْتَقَدَهُ: كَانَ لَهُ فِيهِ حَالٌ وَتَأْثِيرٌ بِحَسَبِهِ. فَالْحَوَالَةُ عَلَى الْحَالِ حَوَالَةُ مُفْلِسٍ مِنَ الْعِلْمِ عَلَى غَيْرِ مَلِيءٍ بِهِ.
وَمِنْ هَاهُنَا دَخَلَ الدَّاخِلُ عَلَى أَكْثَرِ السَّالِكِينَ. وَانْعَكَسَ سَيْرُهُمْ، حَيْثُ أَحَالُوا الْعِلْمَ عَلَى الْحَالِ. وَحَكَّمُوهُ عَلَيْهِ.
وَسَيْرُ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ وَعِبَادِهِ الْأَبْرَارِ وَالْمُقَرَّبِينَ بِخِلَافِ هَذَا. وَهُوَ إِحَالَةُ الْحَالِ عَلَى الْعِلْمِ، وَتَحْكِيمُهُ عَلَيْهِ وَتَقْدِيمُهُ، وَوَزْنُهُ بِهِ وَقَبُولُ حُكْمِهِ. فَإِنْ وَافَقَهُ الْعِلْمُ، وَإِلَّا كَانَ حَالًا فَاسِدًا، مُنْحَرِفًا عَنْ أَحْوَالِ الصَّادِقِينَ بِحَسَبِ بُعْدِهِ عَنِ الْعِلْمِ. فَالْعِلْمُ حَاكِمٌ وَالْحَالُ مَحْكُومٌ عَلَيْهِ. وَالْعِلْمُ رَاعٍ وَالْحَالُ مِنْ رَعِيَّتِهِ. فَمَنْ لَمْ يَكُنْ هَذَا أَصْلَ بِنَاءِ سُلُوكِهِ فَسُلُوكُهُ فَاسِدٌ. وَغَايَتُهُ: الِانْسِلَاخُ مِنَ الْعِلْمِ وَالدِّينِ. كَمَا جَرَى ذَلِكَ لِمَنْ جَرَى لَهُ. وَبِاللَّهِ الْمُسْتَعَانُ.
وَنَحْنُ لَا نُنْكِرُ مَا ذَكَرْتُمْ - مِنْ غَيْبَةِ الشَّاهِدِ بِمَشْهُودِهِ عَنْ شُهُودِهِ، وَبِمَذْكُورِهِ عَنْ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute