ذِكْرِهِ، وَبِمَعْرُوفِهِ عَنْ مَعْرِفَتِهِ، وَبِمَحْبُوبِهِ عَنْ حُبِّهِ - لَكِنْ نُنْكِرُ كَوْنَ هَذَا أَكْمَلَ حَالًا مِنْ صَاحِبِ الْبَقَاءِ وَالتَّمْيِيزِ، وَشُهُودِ الْحَقَائِقِ عَلَى مَا هِيَ عَلَيْهِ. فَلَا يَحْتَاجُ أَنْ يَشْهَدَ حَالُهُ زُورًا. لِأَنَّهُ لَمْ يَحْصُلْ لَهُ مَا حَصَلَ لِصَاحِبِ السُّكْرِ وَالِاصْطِلَامِ مِنَ الزُّورِ. فَهُوَ أَكْمَلُ مِنْهُ حَقِيقَةً وَشَرْعًا.
وَأَمَّا الْغَائِبُ عَنِ الْحَقِيقَةِ الْكَوْنِيَّةِ بِشُهُودِ فِعْلِهِ: فَإِنَّهُ مَتَى صَحِبَهُ اسْتِصْحَابُ عَقْدِ التَّوْحِيدِ، وَأَنَّ مَصْدَرَ كُلِّ شَيْءٍ مَشِيئَةُ اللَّهِ وَحْدَهُ، وَأَنَّهُ مَا شَاءَ كَانَ وَمَا لَمْ يَشَأْ لَمْ يَكُنْ، وَأَنَّهُ لَا يَتَحَرَّكُ مُتَحَرِّكٌ فِي ظَاهِرِهِ أَوْ بَاطِنِهِ إِلَّا بِهِ سُبْحَانَهُ: فَلَا تَضُرُّهُ الْغَيْبَةُ عَنْ هَذَا الْمَشْهَدِ، بِاسْتِغْرَاقِهِ فِي الْقَصْدِ وَالطَّلَبِ وَالْفِعْلِ. إِذْ حُكْمُهُ جَارٍ عَلَيْهِ فِي هَذِهِ الْحَالِ. وَلَيْسَ ضِيقُ قَلْبِهِ عَنِ اسْتِحْضَارِ ذَلِكَ وَقْتَ اسْتِجْمَاعِ إِرَادَتِهِ وَفِعْلِهِ وَطَلَبِهِ - ذَنْبًا. لَا لِلْخَاصَّةِ وَلَا لِلْعَامَّةِ. وَلَا بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَقَامِهِ أَيْضًا. فَإِنَّ الذَّنْبَ تَعَمُّدُ مُخَالَفَةِ الْأَمْرِ. وَهَذَا لَيْسَ كَذَلِكَ. وَلَا هُوَ مُطَالَبٌ بِالْغَيْبَةِ عَنْ شُهُودِ الْحَقِيقَةِ، وَالْفَنَاءِ فِيهَا عَنْ شُهُودِ الْفِعْلِ وَقِيَامِهِ بِهِ، مَعَ اعْتِقَادِ أَنَّهُ بِمَشِيئَةِ اللَّهِ وَحَوْلِهِ وَقُوَّتِهِ.
وَأَمَّا مَا ذَكَرْتُمْ مِنْ أَنَّ مُشَاهَدَةَ الْقُرْبِ تَجْعَلُ الْقَصْدَ قُعُودًا: فَكَلَامٌ لَهُ خَبِئٌ. وَقَدْ أَفْصَحَ عَنْهُ بَعْضُ الْمَغْرُورِينَ الْمَخْدُوعِينَ بِقَوْلِهِ:
مَا بَالُ عَيْنِكَ لَا يَقَرُّ قَرَارُهَا؟ ... وَإِلَامَ ظِلُّكَ لَا يَنِي مُتَنَقِّلًا؟
فَلَسَوْفَ تَعْلَمُ أَنَّ سَيْرَكَ لَمْ يَكُنْ ... إِلَّا إِلَيْكَ إِذَا بَلَغْتَ الْمَنْزِلَا
وَكَأَنَّ صَاحِبَهُ يُشِيرُ إِلَى أَنَّهُ وُجُودُ قَلْبِهِ وَلِسَانِهِ. وَوُجُودُهُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ إِرَادَتِهِ وَلُطْفِهِ. هَذَا خَبِئُ هَذَا الْكَلَامِ. وَتَعَالَى اللَّهُ عَنْ إِلْحَادِ هَذَا وَأَمْثَالِهِ وَإِفْكِهِمْ عُلُوًّا كَبِيرًا. بَلْ هُوَ سُبْحَانَهُ فَوْقَ سَمَوَاتِهِ عَلَى عَرْشِهِ بَائِنٌ مِنْ خَلْقِهِ.
وَأَمَّا مَا ذَكَرْتُمْ مِنَ الْقُرْبِ: فَإِنْ أَرَدْتُمْ عُمُومَ قُرْبِهِ إِلَى كُلِّ لِسَانِ مَنْ نَطَقَهُ وَإِلَى كُلِّ قَلْبِ مَنْ قَصَدَهُ: فَهَذَا - لَوْ صَحَّ - لَكَانَ قُرْبَ قُدْرَةٍ وَعِلْمٍ وَإِحَاطَةٍ، لَا قُرْبًا بِالذَّاتِ وَالْوُجُودِ. فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ لَا يُمَازِجُ خَلْقَهُ، وَلَا يُخَالِطُهُمْ، وَلَا يَتَّحِدُ بِهِمْ. مَعَ أَنَّ هَذَا الْمَعْنَى لَمْ يَرِدْ عَنِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ، وَلَا عَنْ أَحَدٍ مِنَ السَّلَفِ الْأَخْيَارِ تَسْمِيَتُهُ قُرْبًا، وَلَمْ يَجِئِ الْقُرْبُ فِي الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ قَطُّ إِلَّا خَاصًّا كَمَا تَقَدَّمَ.
وَإِنْ أَرَدْتُمُ الْقُرْبَ الْخَاصَّ إِلَى اللِّسَانِ وَالْقَلْبِ: فَهَذَا قُرْبُ الْمَحَبَّةِ، وَقُرْبُ الرِّضَا وَالْأُنْسِ، كَقُرْبِ الْعَبْدِ مِنْ رَبِّهِ وَهُوَ سَاجِدٌ. وَهُوَ نَوْعٌ آخَرُ مِنَ الْقُرْبِ. لَا مِثَالَ لَهُ وَلَا نَظِيرَ. فَإِنَّ الرُّوحَ وَالْقَلْبَ يَقْرُبَانِ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ عَلَى عَرْشِهِ، وَالرُّوحُ وَالْقَلْبُ فِي الْبَدَنِ. وَقَدْ تَقَدَّمَتِ الْإِشَارَةُ إِلَى ذَلِكَ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute