للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وَهَذَا الْقُرْبُ لَا يُنَافِي الْقَصْدَ وَالطَّلَبَ، بَلْ هُوَ مَشْرُوطٌ بِالْقَصْدِ. فَيَسْتَحِيلُ وُجُودُهُ بِدُونِهِ. وَكُلَّمَا كَانَ الطَّلَبُ وَالْقَصْدُ أَتَمَّ: كَانَ هَذَا الْقُرْبُ أَقْوَى.

فَإِنْ قِيلَ: فَكَيْفَ تَصْنَعُونَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ} [ق: ١٦] ؟

قِيلَ: هَذِهِ الْآيَةُ فِيهَا قَوْلَانِ لِلنَّاسِ.

أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ قُرْبُهُ بِعِلْمِهِ. وَلِهَذَا قَرَنَهُ بِعِلْمِهِ بِوَسْوَسَةِ نَفْسِ الْإِنْسَانِ. وَحَبْلُ الْوَرِيدِ حَبْلُ الْعُنُقِ، وَهُوَ عِرْقٌ بَيْنَ الْحُلْقُومِ وَالْوَدَجَيْنِ الَّذِي مَتَى قُطِعَ مَاتَ صَاحِبُهُ. وَأَجْزَاءُ الْقَلْبِ وَهَذَا الْحَبْلُ يَحْجُبُ بَعْضَهَا بَعْضًا. وَعِلْمُ اللَّهِ بِأَسْرَارِ الْعَبْدِ وَمَا فِي ضَمِيرِهِ لَا يَحْجُبُهُ شَيْءٌ.

وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّهُ قُرْبُهُ مِنَ الْعَبْدِ بِمَلَائِكَتِهِ الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلَى قَلْبِهِ. فَيَكُونُ أَقْرَبَ إِلَيْهِ مِنْ ذَلِكَ الْعِرْقِ. اخْتَارَهُ شَيْخُنَا.

وَسَمِعْتُهُ يَقُولُ: هَذَا مِثْلُ قَوْلِهِ: {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ} [يوسف: ٣] وَقَوْلِهِ: {فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ} [القيامة: ١٨] فَإِنَّ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ هُوَ الَّذِي قَصَّهُ عَلَيْهِ بِأَمْرِ اللَّهِ. فَنَسَبَ تَعْلِيمَهُ إِلَيْهِ. إِذْ هُوَ بِأَمْرِهِ، وَكَذَلِكَ جِبْرِيلُ هُوَ الَّذِي قَرَأَهُ عَلَيْهِ. كَمَا فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ: فَإِذَا قَرَأَهُ رَسُولُنَا فَأَنْصِتْ لِقِرَاءَتِهِ حَتَّى يَقْضِيَهَا.

قُلْتُ: أَوَّلُ الْآيَةِ يَأْبَى ذَلِكَ. فَإِنَّهُ قَالَ {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ} [ق: ١٦] قَالَ: وَكَذَلِكَ خَلْقُهُ لِلْإِنْسَانِ إِنَّمَا هُوَ بِالْأَسْبَابِ وَتَخْلِيقِ الْمَلَائِكَةِ.

قُلْتُ: وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ حُذَيْفَةَ بْنِ أُسَيْدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي تَخْلِيقِ النُّطْفَةِ «فَيَقُولُ الْمَلَكُ الَّذِي يَخْلُقُهُ: يَارَبِّ، ذَكَرٌ أَمْ أُنْثَى؟ أَسَوِيٌّ أَمْ غَيْرُ سَوِيٍّ؟ فَيَقْضِي رَبُّكَ مَا شَاءَ وَيَكْتُبُ الْمَلَكُ» . فَهُوَ سُبْحَانُهُ الْخَالِقُ وَحْدَهُ. وَلَا يُنَافِي ذَلِكَ اسْتِعْمَالُ الْمَلَائِكَةِ

<<  <  ج: ص:  >  >>