وَلِلتَّغَذِّي بِالسَّمَاعِ سِرٌّ لِطَيْفٌ. نَذْكُرُهُ لِلُطْفِ مَوْضِعِهِ.
وَهُوَ الَّذِي أَوْقَعَ كَثِيرًا مِنَ السَّالِكِينَ فِي إِيثَارِ سَمَاعِ الْأَبْيَاتِ. لِمَا رَأَى فِيهِ مِنْ غِذَاءِ الْقَلْبِ وَقُوَّتِهِ وَنَعِيمِهِ. فَلَوْ جِئْتَهُ بِأَلْفِ آيَةٍ وَأَلْفِ خَبَرٍ لِمَا أَعْطَاكَ شَطْرًا مِنْ إِصْغَائِهِ. وَكَانَ ذَلِكَ عِنْدَهُ أَعْظَمَ مِنَ الظَّوَاهِرِ الَّتِي يُعَارِضُ بِهَا الْفَلَاسِفَةُ وَأَرْبَابُ الْكَلَامِ.
اعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ جَعَلَ لِلْقُلُوبِ نَوْعَيْنِ مِنَ الْغِذَاءِ: نَوْعًا مِنَ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ الْحِسِّيِّ. وَلِلْقَلْبِ مِنْهُ خُلَاصَتُهُ وَصَفْوُهُ، وَلِكُلِّ عُضْوٍ مِنْهُ بِحَسَبِ اسْتِعْدَادِهِ وَقَبُولِهِ.
وَالثَّانِي: غِذَاءٌ رُوحَانِيٌّ مَعْنَوِيٌّ، خَارِجٌ عَنِ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ: مِنَ السُّرُورِ وَالْفَرَحِ، وَالِابْتِهَاجِ وَاللَّذَّةِ. وَالْعُلُومِ وَالْمَعَارِفِ. وَبِهَذَا الْغِذَاءِ كَانَ سَمَاوِيًّا عُلْوِيًّا. وَبِالْغِذَاءِ الْمُشْتَرَكِ كَانَ أَرْضِيًّا سُفْلِيًّا. وَقِوَامُهُ بِهَذَيْنَ الْغِذَاءَيْنِ. وَلَهُ ارْتِبَاطٌ بِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنَ الْحَوَاسِّ الْخَمْسِ، وَغِذَاءٌ يَصِلُ إِلَيْهِ مِنْهَا.
فَلَهُ ارْتِبَاطٌ بِحَاسَّةِ اللَّمْسِ. وَيَصِلُ إِلَيْهِ مِنْهَا غِذَاءٌ. وَكَذَلِكَ حَاسَّةُ الشَّمِّ. وَكَذَلِكَ حَاسَّةُ الذَّوْقِ. وَكَذَلِكَ ارْتِبَاطُهُ بِحَاسَّتَيِ السَّمْعِ وَالْبَصَرِ: أَشَدُّ مِنِ ارْتِبَاطِهِ بِغَيْرِهِمَا. وَوُصُولُ الْغِذَاءِ مِنْهُمَا إِلَيْهِ أَكْمَلُ، وَأَقْوَى مِنْ سَائِرِ الْحَوَاسِّ. وَانْفِعَالُهُ عَنْهُمَا أَشَدُّ مِنِ انْفِعَالِهِ عَنْ غَيْرِهِمَا. وَلِهَذَا تَجِدُ فِي الْقُرْآنِ اقْتِرَانَهُ بِهِمَا أَكْثَرَ مِنِ اقْتِرَانِهِ بِغَيْرِهِمَا. بَلْ لَا يَكَادُ يُقْرَنُ إِلَّا بِهِمَا، أَوْ بِإِحْدَاهُمَا.
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [النحل: ٧٨] وَقَالَ تَعَالَى: {وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيمَا إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعًا وَأَبْصَارًا وَأَفْئِدَةً فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلَا أَبْصَارُهُمْ وَلَا أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِذْ كَانُوا يَجْحَدُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ} [الأحقاف: ٢٦] وَقَالَ تَعَالَى: {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ} [الأعراف: ١٧٩] . وَقَالَ تَعَالَى فِي صِفَةِ الْكُفَّارِ {صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَعْقِلُونَ} [البقرة: ١٧١] وَقَالَ تَعَالَى: {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} [الحج: ٤٦] . وَهَذَا كَثِيرٌ جِدًّا فِي الْقُرْآنِ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute